إلا نظراً، فإذا أطبقوه لم يحفظ ما فيه إلا النبيّون ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون﴾ أي وما يكذب بها إلا المتجاوزون الحد في الكفر والعناد ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي وقال كفار مكة: هلاَّ أُنزل على محمد آيات خارقة من ربه تدل على صدقه مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى!! ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله﴾ أي قل لهم يا محمد: إنما أمر هذه الخوارق والمعجزات لله وليست بيدي، إن شاء أرسلها، وإن شاء منعها، وليس لأحدٍ دخلٌ فيها ﴿وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي وإنما أنا منذر أخوفكم عذاب الله، وليس من شأني أن آتي بالآيات ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ﴾ ؟ الاستفهام للتوبيخ أي أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي لا يزال يقرع أسماعهم؟ وكيف يطلبون آيةً والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة نبوتك؟ قال ابن كثير: بيَّن تعالى كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آياتٍ تدل على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة سورة منه، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وأنت رجلٌ أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى؟ ولهذا قال بعده ﴿إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي إن في إنزال هذا القرآن لنعمةً عظيمة على العباد بإنقاذهم من الضلالة، وتذكة بليغة لقوم غرضهم الإِيمان لا التعنت ﴿قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾ أي قل لهم: كفى أن يكون الله جلَّ وعلا شاهداً على صدقي، يسهد لي أني رسولُه ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ أي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، فلو كنتُ كاذباً عليه لانتقم مني ﴿والذين آمَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي والذين آمنوا بالأوثان وكفروا بالرحمن، أولئك هم الكاملون في الخسران حيث اشتروا الكفر بالإِيمان ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب﴾ أي يستعجلك يا محمد المشركون بالعذاب يقولون
﴿أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢] وهو استعجال على جهة التكذيب والاستهزاء ﴿وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب﴾ أي لولا أن الله قدَّر لعذابهم وهلاكهم وقتاً محدوداً لجاءهم العذاب حين طلبوه ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي وليأتينهم فجأة وهم ساهون لاهون لا يشعرون بوقت مجيئه ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين﴾ تعجبٌ من قلة فطنتهم ومن تعنتهم وعنادهم والمعنى: كيف يستعجلون العذاب والحال أن جهنم محيطةٌ بهم يوم القيامة كإحاطة السوار بالمعصم، لا مفرَّ لهم منها؟ ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم بهم فقال ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ أي يوم يجللهم العذاب ويحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، ومن جميع جهاتهم ﴿وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي ويقول الله عَزَّ وَجَلَّ لهم: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا من الاستهزاء والإِجرام، وسيء الأعمال، ثم لما بيَّن تعالى حال المكذبين الجاحدين، أعقبه بذكر حال الأبرار المتقين فقال ﴿ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ خطابُ تشريفٍ للتحريض على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام أي يا من شرفكم الله بالعبودية له هاجروا من مكة إن كنتم في ضيق من إظهار الإِيمان فيها،


الصفحة التالية
Icon