جارياً مجرى الرؤية، أن الله العظيم الجليل يدخل ظلمة الليل على ضوء النهار، ويدخل ضوء النهار على ظلمة الليل، ويزيد في هذا ويُنقص من هذا حسب الحكمة الأزلية ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ذلّلهما بالطلوع والأقوال تقديراً للآجال، وإِتماماً للمنافع، كلٌ منهما يسير في فلكه إِلى غاية محدودة هي يوم القيامة ﴿وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي وأنه تعالى عالم بأحوالكم وأعمالكم لا تخفى عليه خافية، فإِن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق، والتدبير الفائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه جل وعلا محيطاً بكل أعماله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ أي ذلك الذي شاهدتموه من عجائب الصنع وباهر القدرة، لتتأكدوا أن الله هو الإِله الحق الذي يجب أن يعبد وحده ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل﴾ أي وأن كل ما يعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام باطل لا حقيقة له كما قل لبيد «ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل» فالجميع خلقه وعبيده، ولا يملك أحدٌ منهم تحريك ذرةٍ إِلا بإِذنه ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير﴾ أي وأنه تعالى هو العليُّ في صفاته، الكبير في ذاته ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله﴾ تذكيرٌ بنعمة أُخرى أي ألم تر أيها العاقل أن السفن العظيمة تسير في البحر بقدرة الله، وبتسخيره ولطفه بالناس وإِحسانه إِليهم، لتهيئة أسباب الحياة قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه هو الذي سخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره أي بلطفه وتسخيره، فإِنه لولا ما جعل في الماء من قوةٍ يحمل بها السفن ما جرت، ولهذا قال بعده ﴿لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ﴾ أي ليريكم عجائب صنعه، ودلائل قدرته ووحدانيته ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي إِن في تسخير هذه السفن وما تحمله من الطعام والأرزاق والتجارات، لآيات باهرة، وعبراً جليلة لكك عبد منيب، صبَّار في الضراء، شكور في الرخاء.
ولفظه «صبَّار» و «شكور» مبالغة في الصبر والشكر ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل﴾ أي وإِذا علا المشركين وغطّاهم وهم في البحر موج كثيف كالجبال ﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي أخلصوا دعاءهم لله حين علموا أنه لا منجي لهم غيره فلا يدعون لخلاصهم سواه ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر﴾ أي فلما أنقذهم من شدائد البحر، واخرجهم إِلى شاطئ النجاة في البر ﴿فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ في الآية حذف تقديره فمنهم مقتصد، ومنهم جاحد، ودلَّ عليه قوله ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ﴾ والمقتصد: المتوسط في العمل قال ابن كثير: وهذا من باب الإِنكار على من شاهد تلك الأهوال، والأمور العظام، ورأى الآيات الباهرة في البحر، ثم بعدما أنعم الله عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والمبادرة إٍلى الخيرات، والدؤوب في العبادات، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصْراً ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ أي وما يكذب بآياتنا إِى كل غدَّار، مبالغ في كفران نعم الله تعالى ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ﴾ أي اتقوا ربكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ﴿واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ أي وخافوا يوماً رهيباً عصيباً لا ينفع والد فيه ولده، ولا يدفع عنه مضرةً، أو يقضي عنه شيئاَ مما تحمَّله ﴿وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ أي ولا ولدٌ يغني أو يدفع عن والده شيئاً، أو يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه قال الطبري: المعنى لا يغني ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل، إلا وسلية من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا ﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي