ومن ذنوبه.
قرن تعالى بين سعة حلمه وشدة عقابه ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، والرجاء والخوف ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي ويقول المشركون من كفار قريش هلاّ أُنزل على محمد معجزة تدل على صدقه مثل معجزات موسى وعيسى!! قال في البحر: لم يعتدّوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، ونبع الماء من بين الأصابع وأمثال هذه المعجزات فاقترحوا عناداً آيات أخرى ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ جواب لما اقترحوا أي لستَ أنت يا محمد إلا محذّر ومبصِّر، شأنك شأن كل رسول قبلك، فلكل قوم نبيٌّ يدعوهم إلى الله وأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبّر الكون والعباد ﴿الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى﴾ أي الله وحده الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها هل هو ذكرٌ أم أنثى؟ تامٌ أم ناقص؟ حسنٌ أم قبيح ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرحام﴾ أي وما تنقصه الأرحامُ بإلقاء الجنين قبل تمامه ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ أي وما تزداد على الأشهر التسعة قال ابن عباس: ما تغيضُ بالوضع لأقلَّ من تسعة أشهر، وما تزداد بالوضع لأكثر من تسعة أشهر، وعنه المراد بالغيض: السقطُ الناقصُ، وبالازدياد: الولدُ التام ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ أي كلُّ شيء من الأشياء عند الله تعالى بقدر محدد لا يتجاوزه حسب المصلحة والمنفعة ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ أي ما غاب عن الحسّ وما كان مشاهَداً منظوراً، فعلمهُ تعالى شاملٌ للخفيِّ والمرْئيِّ لا يخفى عليه شيء ﴿الكبير المتعال﴾ أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المستعلي على كل شيء بقدرته المنزَّه عن المشابهة والمماثلة ﴿سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ أي يستوي في علمه تعالى ما أضمرتْهُ القلوبُ وما نطقتْ به الألسنة ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار﴾ أي ويستوي عنده كذلك من هو مستترٌ بأعماله في ظلمات الليل وهو في غاية الاختفاء، ومن هو ذاهبٌ في طريقه بوَضَح النهار مستعلنٌ لا يستخفي فيما يعمل وهو في غاية الظهور ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾ أي لهذا الإِنسان ملائكة موكَلةٌ به تتعقب في حفظه يأتي بعضُهم بعَقِب بعض كالحَرَس في الدوائر الحكومية ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أي من أمام الإِنسان ومن ورائه ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ أي يحفظونه من الأخطار والمضارّ بأمره تعالى قال مجاهد: ما من عبدٍ إلا وملكٌ موكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوام ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ أي لا يزيل نعمته عن قومٍ ولا يسلبهم إيّاها إلا إذا بدّلوا أحوالهم الجميلة بأحوال قبيحة، وهذه من سنن الله الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافيةٍ ونعمة، وأمنٍ وعزة إلا إذا كفروا تلك النعم وارتكبوا المعاصي وفي الأثر «أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أن قلْ لقومك: إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون» ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا﴾ أي وإذا أراد تعالى هلاك قومٍ أو عذابهم ﴿فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ أي لا يقدر على ردّ ذلك أحد ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ أي ليس لهم من دون الله وليٌّ يدفع عنهم العذاب والبلاء ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق﴾ هذا بيانٌ لآثار قدرته تعالى المنبثّة في الكون أي يريكم أيها الناس البرق الخاطف من خلال


الصفحة التالية
Icon