إهلاكهم بعذاب الاستئصال، وهو لا يريد ذلك مع أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلمه تعالى أنه يخرج من أصلابهم من يعبد الله، ففيه ردٌ عليهم فيما اقترحوا ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر﴾ أي نحن بعظمة شأننا نزلنا عليك القرآن يا محمد ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ أي ونحن الحافظون لهذا القرآن، نصونه عن الزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، قال المفسرون: تكفَّل الله بحفظ هذا القرآن، فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان، ولا على التبديل والتغيير كما جرى في غيره من الكتب فإن حفظها موكولٌ إلى أهلها لقوله تعالى
﴿بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله﴾ [المائدة: ٤٤] وانظر الفرق بين هذه الآية ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ حيث ضمن حفظه وبين الآية السابقة حيث وكل حفظه إليهم فبدَّلوا وغيَّروا ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين﴾ أي ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً في طوائف وفرق الأمم الأولين ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي وما جاءهم رسولٌ إلاّ سخروا منه واستهزءوا به، وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فُعل بمن قبلك من الرسل فلا تحزن ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين﴾ أي كذلك نسلك الباطل والضلال والاستهزاء بأنبياء الله في قلوب المجرمين، كما سلكناه وأدخلناه في قلوب أولئك المستهزئين ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين﴾ أي لا يؤمنون بهذا القرآن وقد مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك والدمار؟ ثم بيَّن تعالى أن كفار مكة لا ينقصهم توافر براهين الإيمان فهم معاندون مكابرون، وفي ضلالهم وعنادهم سائرون فقال ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ أي لو فرض أننا أصعدناهم إلى السماء، وفتحنا لهم باباً من أبوابها، فظلوا يصعدون فيه حتى شاهدوا الملائكة والملكوت ﴿لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ أي لقالوا - لفرط مكابرتهم وعنادهم - إنما سُدَّت أبصارنا وخُدعت بهذا الارتقاء والصعود ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ أي سحرنا محمد وخيَّل إلينا ذلك وما هو إلا سحر مبين قال الرازي: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج، وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلكانه، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكّوا في تلك الرؤية، وبقوا مصرين على لاكفر والعناد كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر، والقرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإِنس أن يأتوا بمثله، ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً﴾ أي جعلنا في السماء منازل تسير فيها الأفلاك والكواكب ﴿وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ أي زيناها بالنجوم ليُسرَّ الناظر إليها ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾ أي حفظنا السماء الدنيا من كل شيطان لعين مطرود من رحمة الله ﴿إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾ أي إلا من اختلس شيئاً من أخبار السماء فأدركه ولحقه شهاب ثاقب فأحرقه ﴿والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ أي بسطناها ووسعناها وجعلنا فيها جبالاً ثوابت ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ أي أنبتنا في الأرض من الزروع والثمار من كل شيءٍ موزون بميزان


الصفحة التالية
Icon