قلوب المؤمنين «أهل الحديبية» حين بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على مناجزة الحرب مع أهل مكة، بعد أن حصل لهم ما يزعج النفوس ويزيع القلوب، من صد الكفار لهم عن دخول مكة، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصود، فلم يرجع منه أحدٌ عن الإِيمان، بعد أن هاج الناس وماجوا، وزلزلوا حتى جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: أنت نبيَّ الله حقاً؟ قال: بلى، قال ألسنا على الحق وعدوُّنا على الباطل؟ قال بلى، قال: فلم نعط الدنيَّة في ديننا إذن؟ قال إني رسول الله وليست أعصيه وهو ناصري.
. الخ. ﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ليدخلهم على طاعتهم وجهادهم حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحتها أنهار الجنة ما كثين فيها أبداً ﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي يمحو عنهم خطاياهم وذنوبهم ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً﴾ أي وكان ذلك الإدخال في الجنات والتكفير عن السيئات، فوزاً كبيراً وسعادةً لا مزيد عليها، إذ ليس بعد نعيم الجنة نعيم ﴿وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ أي وليعذِّب الله أهل النفاق والإِراك، وقدَّمهم على المشركين لأنهم أعظم خطراً وأشر ضرراً من الكفار المجاهرين بالكفر ﴿الظآنين بالله ظَنَّ السوء﴾ أي الظانين بربهم أسوأ الظنون، ظنوا أن الله تعالى لن ينصر رسله والمؤمنين، وأن المشركين يستأصلونهم جميعاً كما قال تعالى ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً﴾ قال القرطبي: ظنوا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يرجع إلى المدينة ولا أحدٌ من أصحابه حين خرج إلى الحديبية ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾ دعاءٌ عليهم أي عليهم ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين من الهلاك والدمار ﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ أي سخط تعالى عليهم بكفرهم ونفاقهم، وأبعدهم عن رحمته ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ أي وهيأ لهم في الآخرة ناراً مستعرة هي نار جهنم، وساءت مرجعاً ومنقلباً لأهل النفاق والضلال ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض﴾ تأكيد للانتقام من الأعداء أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين قال الرازي: كرر اللفظ لأن جنود الله قد يكون إِنزالهم للرحمة، وقد يكون للعذاب، فذكرهم أولاً لبيان الرحمة للمؤمنين وثانياً لبيان إِنزال العذاب عل الكافرين ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ أي عزيزاً في ملكه وسلطانه، حكيماً في صنعه وتدبيره قال الصاوي: ذكره هذه الآية أولاً في معرض الخلق والتدبير فذيَّلها بقوله
﴿عَلِيماً حَلِيماً﴾ [الأحزاب: ٥١] وذكرها ثانياً في معرض الانتقام فذيلها بقوله ﴿عَزِيزاً حَكِيماً﴾ وهو في منتهى الترتيب الحسن، لأنه تعالى ينزل جنوج الحرمة لنصرة المؤمنين، وجنود العذاب لإِهلاك الكافرين.. ثم امتن تعالى على رسوله الكريم بتشريفه بالرسالة، وبعثه إلى كافة الخلق فقال ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ أي: إنا أرسلناك يا محمد شاهداً على الخلق يوم القيامة، ومبشراً للمؤمنين بالجنة، ومنذراً للكافرين من عذاب النار ﴿لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي أرسلنا الرسول لتؤمنوا أيها الناس بربكم ورسولكم حقَّ الإِيمان، إيماناً عن اعتقاد ويقين، لا يخالطه شك ولا ارتياب {


الصفحة التالية
Icon