ذكر دلائل القدرة والوحدانية ليستدلوا على وجوده جلَّ وعللا من آثاره فقال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً﴾ الهمزة للإِنكار والتعجيب أي أولم ينظروا نظر اعتبار، ويتفكروا فيما أبدعته أيدينا من غير واسطة، وبلا شريك ولا معين مما خلقناه لهم ولأجلهم من الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم، فيستدلوا بذلك على وحدانيتنا وكمال قدرتنا؟ ﴿ {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ أي فهم متصرفون فيها كيف يشاءون تصرف المالك بماله ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ قال ابن كثير: المعنى جعلهم يقهرونها وهي ذليلةٌ لهم لا تمتنع منه، بل لو جاء صغير إلى بعيرٍ لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه وهو ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير لسار الجميع بسير الصغير، فسبحان من سخر هذا لعباده} ! ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ أي فمن هذه الأنعام ما يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال كالإِبل التي هي سفن البر، ومنها ما يأكلون لحمه كالبقر والغنم ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ﴾ أي ولهم فيها منافع عديدة غير الأكل والركوب كالجلود والأصواف والأوبار، ولهم فيها مشارب أيضاً يشربون من ألبانها ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ﴾ [النحل: ٦٦] ﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي أفلا يشكرون ربهم على هذه النعم الجليلة؟ والغرضُ من الآيات تعديدُ النعم وإِقامةُ الحجة عليهم.. ثم وبخهم وعنفهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع من الأوثان والأصنام، وذلك نهاية الغيّ والضلال فقال ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي وعبد المشركون آلهة من الأحجار رجاء أن يُنصروا بها وهي صماء بكماء، لا تسمع الدعاء ولا تستجيب للنداء ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾ أي لا تستطيع هذه الآلهة المزعومة نصره بحالٍ من الأحوال، لا بشفاعة ولا بنصرةٍ أو أعانة ﴿وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ﴾ أي وهؤلاء المشركون كالجند والخدم لأصنامهم في التعصب لهم، والذبِّ عنهم، وفدائهم بالروح والمال، مع أنهم لا ينفعوهم أيَّ نفع قال قتادة: المشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليه خيراً ولا تدفع عنه شراً، إنما هي أصنام والمشركون كأنهم خدام وقال القرطبي: المعنى إنهم قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل شيء أصلاً، والكفار يمنعون منهم ويدفعون عنهم، فهم لهم بمنزلة الجند، والأصنام لا تستطيع أن تنصرهم.
﴿فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾ أي لا تحن يا محمد على تكذيبهم لك، واتهامهم بأنك شاعرٌ أو ساحر، وهذه تسليةٌ للنبي عليه السلام، وهنا تمَّ الكلام ثم قال تعالى ﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي نحن أعلم بما يخفونه في صدورهم، وما يظهرونه من أقوالهم وأفعالهم، فنجازيهم عليه، وكفى بربك أنه على كل شيء شهيد.. ثم أقام الدليل القاطع، والبرهان الساطع، على البعث والنشور فقال ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ استفهامٌ إِنكاريٌ للتوبيخ والتقريع أي أولم ينظر هذا الإِنسان الكافر نظر اعتبار، ويتفكر في قدرة الله فيعلم أنّا خلقناه من شيءٍ مهينٍ حقير هو النطفة «المني» الخارج من مخرج النجاسة؟ ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ أي فإذا هو شديد الخصومة والجدال بالباطل، يخاصم ربه وينكر قدرته، ويكذب بالبعث والنشور، أفليس الإِله الذي قدر على خلق


الصفحة التالية
Icon