إِليهم من البشر يخوفهم من عذاب الله ﴿فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ أي فقال كفار مكة: هذا شيءٌ في منتهى الغرابة والعجب والإِظهار في موضع الإِضمار لتسجيل جريمة الكفر عليهم، والآية إِنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، فإِنهم قد عرفوا صدق الرسول وأمانته ونصحه، فكان الواجب عليهم أن يسارعوا إلى الإِيمان لا أن يعجبوا ويستهزئوا، ثم أخبر تعالى عن وجه تعجبهم فقال ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً﴾ أي أئذا متنا واستحالت أجسادنا إِلى تراب هل سنحيا ونرجع كما كنَّا؟ ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ أي ذلك رجوع بعيد غاية البعد، مستحيل حصوله ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ﴾ أي قد علمنا ما تنقصه الأرض من أجسادهم، ما تأكله من لحومهم وأشعارهم ودمائهم إِذا ماتوا، فلا يضل عنا شيءٌ حتى تتعذَّر علينا الإِعادة ﴿وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ أي ومع علمنا الواسع عندنا كتاب حافظ لعددهم وأسمائهم وما تأكله الأرض، وهو اللوح المحفوظ الذي يحصي تفصيل كل شيء ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ إِضراب إِلى ما هو أفظع وأشنع من التعجب وهو التكذيب بالقرآن العظيم أي كذبوا بالقرآن حين جاءهم، مع سطوع آياته، ووضوح بيانه ﴿فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾ أي فهم في أمرٍ مختلط مضطرب، فتارة يقولون عن الرسول إِنه ساحر، وتارةً يقولون إِنه شاعر، وتارة يقولون إِنه كاهن، وهكذا قالوا أيضاً عن القرآن إِنه شحر، أو شعر، أو أساطير الأولين إِلى غير ذلك.
. ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية الدالة على عظمة رب العالمين فقال ﴿أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ﴾ أي أفلم ينظروا نظر تفكر واعتبار، إِلى السماء في ارتفاعها وإِحكامها، فيعلموا أن القادر على إِيجادها قادر على إعادة الإِنسان بعد موته؟ ﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾ أي كيف رفعناها بلا عمد وزيناها بالنجوم ﴿وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ أي ما لها من شقوق وصدوع ﴿والأرض مَدَدْنَاهَا﴾ أي والأرض بسطناها ووسعناها ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ أي وجعلنا فيها جبالاً ثوابت تمنعها من الاضطراب بسكانها ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ أي وأنبتنا فيها من كل نوعٍ من النبات حسن المنظر، يبهج ويسر الناظر إِليه ﴿تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ أي فعلنا ذلك تبصيراً منا وتذكيراً عن كمال قدرتنا، لكل عبد راجع إلى الله متفكر في بديع مخلوقاته ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً﴾ أي ونزلنا من السحاب ماءً كثير المنافع والبركة ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد﴾ أي فأخرجنا بهذال الماء البساتين الناضرة، والأشجار المثمرة، وحبَّ الزرع المحصود، كالحنطة والشعير وسائر الحبوب التي تحصد ﴿والنخل بَاسِقَاتٍ﴾ أي وأخرجنا شجر النخيل طوالاً مستويات ﴿لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾ أي لها طلعٌ منضود، منظمٌ بعضه فوق بعض، قال أبو حيان: يريد كثرة الطلع وتراكمه وكثرة ما فيه من الثمر، وأول ظهور الثمر يكون منضَّداً كحب الرمان، فما دام متلصقاً بعضه ببعض فهو نضيد، فإِذا خرج من أكمامه فليس بنضيد ﴿رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ﴾ أي أنبتنا كل ذلك رزقاً للخلق لينتفعوا به ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ أي وأحيينا بذلك الماء أرضاً جدبة لا ماء فيها ولا زرع فأنبتنا فيها الكلأ والعشب ﴿كَذَلِكَ الخروج﴾ أي كما أحييناها بعد موتها كذلك نخرجكم أحياء بعد موتكم قال ابن كثير: وهذه الأرض الميتة كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج من أزاهير وغير ذلك مما يحار الطرف