كيف جعل أوصاف الجنتين الأوليين أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما، فقال هناك ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ وقال هنا ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ والجريُ أشدُّ من النضح، وقال هناك ﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ وقال هنا ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ والأول أعم وأشمل، وقال في صفة الحور هناك ﴿كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان﴾ وقال هنا ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ وليس كل حُسْنٍ كحسن الياقوت والمرجان فالوصف هناك أبلغ، وقال هناك في وصف الفرش ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ وهو الديباج وقال هنا ﴿مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ ولا شك أن الفرش المعدَّة للاتكاء أفضل من فضل الخباء ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا مشعر الإِنس والجن؟ ﴿مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ أي مستندين على وسائد خضر من وسائد الجنة ﴿وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ أي وطنافس ثخينة مزخرفة، محلاَّة بأنواع الصور والزينة قال الصاوي: وهي نسبة إِلى «عبقر» قرية بناحية اليمن، يُنسج فيها بسط منقوشة بلغت النهاية في الحسن، فقرَّب الله لنا فرش الجنتين بتلك البسط المنقوشة ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تعالى تكذبان يا معشر الإِنس والجن ﴿تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ﴾ أي تنزه وتقدَّس الله العظيم الجليل، وكثرت خيراته وفاضت بركاته ﴿ذِي الجلال والإكرام﴾ أي صاحب العظمة والكبرياء، والفضل والإِنعام قال في البحر: لما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله
﴿ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام﴾ [الرحمن: ٢٧] ختم نعم الآخرة بقوله ﴿تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام﴾ وناسب هناك ذكر البقاء والديمومة له تعالى بعد ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر البركة وهي النماء والزيادة عقب امتنانه على المؤمنين في دار كرامته وما آتاهم من الخير والفضل في دار النعيم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيا يلي:
١ - المقابلة اللطيفة بين ﴿والسمآء رَفَعَهَا﴾ [الرحمن: ٧] وبين ﴿والأرض وَضَعَهَا﴾ [الرحمن: ١٠] وكذلك المقابلة بين ﴿خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار﴾ [الرحمن: ١٤] ﴿وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ [الرحمن: ١٥].
٢ - التشبيه المرسل المجمل ﴿وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام﴾ [الرحمن: ٢٤] أي الجبال في العظم.
٣ - المجاز المرسل ﴿ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] أي ذاته المقدسة وهو من باب إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
٤ - الاستعارة التمثيلية ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان﴾ [الرحمن: ٣١] شبَّه انتهاء الدنيا وما فيها من تدبير شئون


الصفحة التالية
Icon