الإِنفاق والتزهيد في الدنيا ولهذا قال بعده ﴿فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ أي فالذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والإِنفاق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم لهم أجر عظيم وهو الجننة قال أبو السعود: وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى، حيث جعل الجملة اسمية ﴿فالذين آمَنُواْ﴾ وأعيد ذكرُ الإِيمان والإِنفاق ﴿آمَنُواْ وَأَنفَقُواْ﴾ وكرر الإِسناد ﴿لَهُمْ﴾ وفخَّم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير ﴿لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله﴾ استفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيُّ عذرٍ لكم في ترك الإِيمان بالله؟ ﴿والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ﴾ أي والحالُ أن الرسول صلى الل عليه وسلم يدعوكم للإِيمان بربكم وخالقكم، بالبراهين القاطعة، والحجج الدامغة ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ أي وقد أخذ الله ميثاقكم وهو العهد المؤكد بما ركز في العقول من الأدلة الدالة على وجود الله قال أبو السعود: وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقال الخازن: أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ شرطٌ حذف جوابه أي إِن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات فالآن أحرى الأوقات لقيام الحجج والبراهين عليكم.. ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإيمان فقال ﴿هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي هو تعالى الذي ينزّل على محمد القرآن العظيم، المعجز في بيانه، الواضح في أحكامه قال القرطبي: يريد بالآيات البينات القرآن وقيل: المعجزات أي لزمكم الإِيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما معه من المعجزات، والقرآنُ أكبرها وأعظمها ﴿لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي ليخرجكم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان ﴿وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم، حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتكم، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض﴾ ؟ أيْ أيُّ شيءٍ يمنعكم من الإِنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتخلّفون أموالكم وهي صائرة إِلى الله تعالى؟ قال الإِمام الفخر: المعنى إِنكم ستموتون فتورثون، فهلاَّ قدمتموه في الإِنفاق في طاعة الله!! وهذا من أبلغ الحث على الإِنفاق في سبيل الله ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ﴾ أي لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة قال المفسرون: وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الإِسلام إِلى الجهاد والإِنفاق كانت أشد، ثم أعز الله الإِسلام بعد الفتح وكثَّر ناصريه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ﴿أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ﴾ أي أعظم أجراً، وأرفع منزلة من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا لإِعلاء كلمة الله قال الكلبي: نزلت في «أبي بكر» لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذبَّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ أي وكلاً ممن آمن وأنفق قبل الفتح، ومن آمن وأنفق بعد الفتح،