الإِنفاق ﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد﴾ أي فإِن الله مستغنٍ عنه وعن إِنفاقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا يضره الإِعراض عن شكره، ولا تنفعه طاعة الطائعني، وفيه وعيدٌ وتهديد ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات﴾ اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد بعثنا رسلنا بالحجج القواطع والمعجزات البينات ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان﴾ أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية التي فيها سعادة البشرية، وأنزلنا القانون الذي يُحكم به بين الناس، وفسَّر بعضهم الميزان بأنه العدلُ وقال ابن زيد: وهو ما يُوزن به ويُتعامل ﴿لِيَقُومَ الناس بالقسط﴾ أي ليقوم الناس بالحق والعدل في معاملاتهم ﴿وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد، لأن آلات الحرب تُتخذ منه، كالدروع، والرماح، والتروس، والدبابات وغاير ذلك ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي وفيه منافع كثير للناس كسكك الحراثة، والسكين، والفأس وغير ذلك وما من صناعةٍ إِلا والحديدُ آلة فيها قال أبو حيان: وعبَّر تعالى عن إيجاده بالإِنزال كما قال
﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦] لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تُلقى من السماء جعل الكل نزولاً منها، وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله الجمهور ﴿وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب﴾ عطفٌ على محذوف مقدر أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ويجاهدوا لإِعلاء كلمة الله، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة مؤمناً بالغيب قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، ثم قال تعالى ﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه، عزيزٌ أي غالب لا يُغالب فهو غني بقدرته وعزته عن كل أحد قال البيضاوي: أي قويٌ على إِهلاك من أراد إِهلاكه، عزيزٌ لا يفتقر إِلى نصرة أحد، وإِنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا الثواب وقال ابن كثير: معنى الآية أنه جعل الحديد رادعاً لمن أبى الحقَّ وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة ثلاث عشرة سنة تُوحى إِليه السور، ويقارعهم بالحجة والبرهان، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله، شرع الله الهجرة وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، ولهذا قال عليه السلام «بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجعل الذي والصِّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم» ثم قال تعالى ﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي هو قوي عزيز ينصر من شاء من غير احتياج منه إِلى الناس، وإِنمام شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب﴾ لما ذكر بعثة الرسل ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام، وأبا الأنبياء إِبراهيم عليه السلام وبيَّن أنه جعل في نسلهما النبوة والكتب السماوية أي وباللهِ لقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم وجعلنا النبوة في نسلهما، كما أنزلنا الكتب الأربعة ويه «التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن» على ذريتهما، وإِنما خصَّ نوحاً وإِبراهيم بالذكر تشريفاً لهما وتخليداً لمآثرهما الحميدة ﴿فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي فمن ذرية نوح وإِبراهيم أناس مهتدون، وكثيرٌ منهم عصاٌ خارجون عن الطاعة وعن الطريق المستقيم ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا﴾ أي ثم