الفجار، هجر قومه واعتزلهم والمعنى إني مهاجر من بلد قومي إلى حيث أمرني ربي قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع سارة إلى أرض الشام ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين﴾ أي ارزقني ولداً من الصالحين يؤنسني في غُربتي قال ابن كثير: يريد أولاداً مطيعين يكونون عوضاً عن قومه وعشيرته الذين فارقهم ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾ أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بغلامٍ يكون حليماً في كبره قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحُلم، وأنه يكون حليماً، لأن الصغير لا يوصف بذلك، وأيُّ حلم يعادل حلمه عليه السلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال ﴿قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ !! وجمهور المفسرين على أن هذا الغلام المبشر به هو «اسماعيل» لأن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي﴾ أي فلما ترعرع وشبَّ وبلغ السنَّ الذي يمكنه أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه قال المفسرون: وهو سن الثالثة عشرة ﴿قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ أي إِني أُمرت في المنام أنْ أذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ وتلا الآية وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاضاً ورقوداً، لأن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم ﴿فانظر مَاذَا ترى﴾ ؟ أي فانظر في الأمر، ما رأيك فيه؟ قال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلَده وعزمه على طاعة الله وطاعة أبيه.
فإن قيل: لم شاوره في أمرٍ هو حتمٌ من الله فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكنْ ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطِّن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب ﴿قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ أي امرض لما أمرك الله به من ذبحي، فستجدني صابراً إن شاء الله، وهو جواب من أوُتي الحلم والصبر وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أي فلما استسلما الأب والابن لأمر الله، وصرعه على وجهه ليذبحه قال ابن عباس: ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أكبَّه على وجهه ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾ هذه جواب «لمَّا» والواو مقحمة أي ناديناه يا إبراهيم قد نفَّذْتْ ما أُمرت به، وحصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، روي أنه أمرَّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع قال الصاوي: والحكمة في هذه القصة أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، فلما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبةٌ من قبله بمحبة ولده، فأُمر بذبح المحبوب لتظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر به وقدَّم محبته على محبة ولده، قال ابن عباس: فلما عزم على ذبح ولده ورماه على شقة قال الإِبن: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيءٌ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأحدَّ شفرتك وأسرعْ بها على حلقي ليكون الموت أهونَ عليَّ، وإِذا أتيتَ أمي فاقْرئْها مني السلام، وإن رأيتَ أن


الصفحة التالية
Icon