وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} أي واستمروا على الكفر والطغيان، واستكبروا عن الإِيماتن استكباراً عظيماً، وفيه إشارة إلى فرط عنادهم، وغلوهم في الضلال ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً﴾ أي دعوتهم علناً على رؤوس الأشهاد، مجاهراً يدعوتي لهم دون خوف أو تحفظ ﴿ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً﴾ أي أخبرتهم سراً وعلناً، خيفةً وجهراً، وسلكت معهم كل طريق في الدعوة إِليك قال المفسرون: والعطف بثُمَّ يشعر بأن الإِعلان والإِسرار الأخيرين، كانا طريقة ثالثة سلكها نوح في الدعوة، غير طريقة السر المحضة، وغير طريقة الجهر المحضة، فكان في الطريقة الثالثة يعلن لهم الدعوة مرة حيث يصلح الإِعلان، ويسرها لهم أخرى حيث يتوقع نفع الإِسرار، ثم وضح ما وعظهم به سراً وعلانية فقال ﴿فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾ أم آمنوا بالله وتوبوا عن الكفر والمعاصي، فإن ربكم تواب رحيم، يغفر الذنب ويقبل التوب ﴿يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً﴾ أي ينزل المطر عليكم غزيراً متتابعاً، شديد الانسكاب ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ أي يكثر أموالكم وأولادكم ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾ أي ويجعل لكم الحدائق الفسيحة، ذات الأشجار المظلمة المثمرة، ويجعل لكم الأنهار تجري خلالها.. أطمعهم نوح عليه السلام بالحصول على بركات السماء وبركات الأرض، إن هم آمنوا بالله الذي بيده مفاتح هذه الخزائن، وأتاهم من طريق القلب لتحريك العواطف، ولبيان أن ما هم في من انحباس الأمطار، وما حرموه من الرزق والذرية، إنما سببه كفرهم بالله الذي بيده وحده إرسال المطر، وإِغداق الرزق، والإِمداد بالأموال والبنين، وأنه لا ينبغي لهم أن يكفروا بهذا الإِله القادر، ويعبدوا آلهة أخرى اخترعوها، لا تضر ولا تنفع، ثم عاد فهزَّ نفوسهم هزاً، وعطفها نحو الإِيمان بأسلوب آخر من أساليب البيان فقال ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ أي ما لكم أيها القوم لا تخافون عظمة الله وسلطانه، ولا ترهبون له جانباً! ﴿قال ابن عباس: اي ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته﴾ ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ أي وقد خلقكم في أطوار مختلفة، وأدوار متباينة، طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، إلى سائر الأحوال العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
. ثم نبههم إلى دلائل القدرة والوحدانية، منبثة في هذا الكون الفسيح فقال ﴿أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً﴾ أي ألم تشاهدوا يا معشر القوم عظمة الله وقدرته، وتنظروا نظر اعتبار، وتفكر وتدبر، كيف أن الله العظيم الجليل خلق سبع سموات سماء فوق سماء، متطابقة بعضها فوق بعض، وهي في غاية الإِبداع والإِتقان!! ﴿وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً﴾ أي وجعل القمر في السماء الدنيا، منوراً لوجه الأرض في ظلمة الليل قال الإِمام الفخر: القرم في السماء الدنيا وليس في السموات بأسرها، وهذا كما يقال: السلطان في العراق ليس المراد ان ذاته حاصلة في كل أنحائها، بل إن ذاته في حيز من جملة أنحاء العراق، فكذا ههنا وقال في البحر: والقمر في السماء الدنيا، وصح كون السموات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزممن الظرف أن يملأ المظروف، تقول


الصفحة التالية
Icon