شأنٍ من شئونك على غيره تعالى قال ابن كثير: أي أكثر من ذكره وانقطع إليه جلا وعلا، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك مع إخلاص العبادة له ﴿رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً﴾ أي هو جل وعلا الخالق المتصرف بتدبير شئون الخلق، وهو المالك لمشارق الأرض ومغاربها، لا إله غيره ولا ربَّ سواه، فاعتمد عليه وفوّض أمورك إليه ﴿واصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ أي اصبر على أذى هؤلاء السفهاء المكذبين فيما يتقولونه عليك من قولهم: «ساحر، شاعر، مجنون» فإن الل ناصرك عليهم ﴿واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً﴾ أي اتركهم ولا تتعرض لهم بأذى ولا شتيمة، قال المفسرون: الهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه، ولا يشوبه أذى ولا شتم، وقد كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال كما قال سبحانه ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأَنعام: ٦٨] ثم أُمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتالهم وقتلهم، والحكمة في هذا أن المؤمنين كانوا بمكة قلة مستضعفين، فأمروا بالصبر وبالمجاهدة الليلية، حتى يُعدُّوا أنفسهم بهذه التربية الروحية على مناجزة الأعداء، وحتى يكثر عددهم فيقفوا في وجه الطغيان، أما قبل الوصول إلى هذه المرحلة فينبغي الصر والاقتصار على الدعوة باللسان.
. ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً صناديد قريش ﴿وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة﴾ أي دعني يا محمد وهؤلاء المكذبين بآياتي، أصحاب الغنى، والتنعم في الدنيا، والترف والبطر فأنا أكفيك شرهم قال الصاوي: المعنى اتركني أنتقم منهم، ولا تشفع لهم، وهذا من مزيد التعظيم له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإِجلال قدره ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً﴾ أي وأمْهِلهمْ زمناً يسيراً حتى ينالوا العذاب الشديد قال المفسرون: أمهلهم الله تعالى إلى أن هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة، فلما خرج منها سلَّط عليهم السنين المجدبة وهو العذاب العام، ثم قتل صناديدهم ببدر وهو العذاب الخاص.. ثم وصف تعالى ما أعده لهم من العذاب في الآخرة فقال ﴿إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً﴾ أي إنَّ لهم عندنا في الآخرة قيوداً عظيمة ثقيلة يقيدون بها، وناراً مستعرة هي نار الجحيم يحرقون بها قال في التسهيل: الأنكال جمع نِكْل وهو القيد من الحديد، وروي أنها قيود سودٌ من نار ﴿وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ﴾ أي وطعاماً كريهاً غير سائق، يغصُّ به الإِنسان وهو الزقوم والضريع قال ابن عباس: شوك من نار يعترض في حلقوهم لا يخرج ولا ينزل ﴿وَعَذَاباً أَلِيماً﴾ أي وعذاباً وجيعاً مؤلماً، زيادة على ما ذكر من النكال والأغلال.. ثم ذكر تعالى وقت هذا العذاب فقال ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال﴾ أي يوم تتزلزل الأرض وتهتز بمن عليها اهتزازاً عنيفاً شديداً هي وسائر الجبال، وذلك يوم القيامة ﴿وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً﴾ أي وتصبح الجبال على صلابتها تلاً من الرمل سائلاً متناثراً، بعد أن كانت صلبة جامدة قال ابن كثير: أي تصير الجبال ككثبان الرمال، بعد ما كانت جحارة صماء، ثم إنها تُنسف نسفاً فلا يبقى منها شيء إلا ذهب كقوله تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾ [طه: ١٠٥١٠٧] أي لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.. ذكر تعالى العذاب


الصفحة التالية
Icon