للإِنسان إِرادةً واختياراً هما مناط التكليف، كقوله تعالى ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ﴾ [الإِسراء: ١٨] إلى ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا﴾ [الإِسراء: ١٩] وكقوله ﴿وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] فلا إكراه لأحدٍ ولا إِجبار، وإِنما هو بمحض الإِرادة والاختيار.. ثم بعد هذا البيان الواضح، بيَّن ما أعدَّه للأبرار والفجار في دار القرار فقال ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً﴾ أي هيأنا للكافرين المجرمين قيوداً تشدُّ بها أرجلهم، وأغلالاً تُغلُّ بها أيديهم إلى أعناقهم، وسعيراً أي ناراً موقدة مستعرة يحرقون بها كوله تعالى ﴿إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾ [غافر: ٧١٧٢] ﴿إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾ أي الذين كانوا في الدنيا أبراراً بطاعتهم الجبار، فإِنهم يشربون كأساً من الخمر، ممزوجة بأنفس أنواع الطيب وهو الكافور، قال المفسرون: الكافور طيبٌ معروف يستحضر من أشجار ببلاد الهند والصين، وهو من أنفس الطيب عند العرب، والمراد أن من شرب تلك الكأس وجد في طيب رائحتها، وفوحان شذاها كالكافور. قال بن عباس: الكافور اسم عين ماءٍ في الجنة يقال له عين الكافور تمتزج الكأس بماء هذه العين وتختم بالمسك فتكون ألذَّ شراب، ولهذا قال تعالى ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله﴾ أي هذا الكافور ويتدفق من عينٍ جارية من عيون الجنة يشرب منها عباد اله الأبرار، وصفهم بالعبودية تكريماً لهم وتشريفاً بإِضافتهم إِليه تعالى ﴿عِبَادُ الله﴾ والمراد بهم المؤمنون المتقون ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ أي يجروها حيث شاءوا من الدور والقصور قال الصاوي: المارد أنها سهلة لا تمتنع عليهم، ورد أن الرجل منهم يمشي في بيوته، ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به الى الماء، فيجري معه حيثما دار في منازله، ويتبعه حيثما صعد إِلى أعلى قصوره.
. ولما ذكر ثواب الأبرار، بيَّن صفاتهم الجليلة التي استحقوا بها ذلك الأجر الجزيل فقال ﴿يُوفُونَ بالنذر﴾ أي يوفون بما قطعوه على أنفسهم من نذرٍ في طاعة الله، إِذا نذروا طاعةً فعلوها قال الطبري: النذرُ كلُّ منا أوجبه الإِنسان على نفسه من فعل، فإِذا نذروا بروا بوفائهم لله، بالنذور التي في طاعة الله، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة قال المفسرون: وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه، كان بما أوجبه الله عليه أوفى ﴿وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ أي ويخافون هول يومٍ عظيم كانت أهواله وشدائده من تفطر السموات، وتناثر الكواكب، ويتطاير الجبال، وغير ذلك من الأهوال ممتدة منتشرة فاشية، بالغة أقصى حدود الشدة والفزع، قال قتادة: استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى بلغ السموات السبع والأرض ﴿وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ﴾ أي ويطعمون الطعام مع شهوتهم له، وحاجتهم إِليه ﴿مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ أي فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ويتيماً مات أبوه وهو صغير، فعدم الناصر والكفيل، وأسيراً وهو من أُسر في الحرب من المشركين قال الحسن البصري: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ


الصفحة التالية
Icon