يُؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إِليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه.. نبَّه تعالى إِلى أن أولئك الأبرار مع حاجتهم إلى ذلك الطعام، في سدِّ جوعتهم وجوعة عيالهم، يطيبون نفساً عنه للبؤساء، ويؤثرونهم به على أنفسهم كقوله تعالى ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩] ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾ أي إنما نحسن إِليكم ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه ﴿لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً﴾ أي لا نبتغي من وراء هذا الإِحسان مكافأةً، ولا نقصد الحمد والثناء منكم قال مجاهد: أما والله ما قالوه بألستنهم، ولكن علم الله به في قلوبهم، فأثنى عليهم به، ليرغب في ذلك راغب ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ أي إنما نفعل ذلك رجاء أن يقينا الله هو يومٍ شديد، تعبس فيه الوجوه من فظاعة أمره، وشدة هوله، وهو يومٌ فمطرير أي شديد عصيب ﴿فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم﴾ أي حماهم الله ودفع عنهم شرَّ ذلك اليوم وشدته ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾ أي وأعطاهم نضرةً في الوجه، وسروراً في القلب، والتنكير في ﴿سُرُوراً﴾ للتعظيم والتفخيم ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً﴾ أي وأثابهم بسبب صبرهم على مرارة الطاعة والإِيثار بالمال، جنةً واسعة وألبسهم فيها الحرير كما قال تعالى ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: ٢٣].. وفي الآية إيجازٌ، آخذٌ بأطراف الإِعجاز، فقد أشار تعالى بقوله ﴿جَنَّةً﴾ إلى ما يتمتع به أولئك الأبرار في دار الكرامة من أصناف الفواكة والثمار، والمطاعم والمشارب الهنية، فإن الجنة لا تسمَّى جنة إلا وفيها كل أسباب الراحة كما قال تعالى
﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين﴾ [الزخرف: ٧١] وأشار بقوله ﴿وَحَرِيراً﴾ إلى ما يتمتعون به من أنواع الزينة واللباس، التي من أنفسها وأغلاها عند العرب الحرير، فقد جمع لهم أنواع الطعام والشراب واللباس، وهو قُصارى ما تتطلع له نفوس الناس.. ولما ذكر طعامهم ولباسهم وصف نعيمهم ومساكنهم فقال ﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك﴾ أي مضطجعين في الجنة على الأسرَّة المزيَّنة بفاخر الثياب والستور قال المفسرون: الأرائك جمع أريكة وهي السرير ترخى عليه الحجلة، والحجلة هي ما يسدل على السرير من فاخر الثياب والستور، وإِنما خصَّهم بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾ أي لا يجدون فيها حراً ولا برداً، لأن هواءها معتدل فلا حرَّ ولا قرَّ، وإِنما هي نسمات تهبُّ من العرش تحيي الأنفاس ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا﴾ أي ظلال الأشجار شفي الجنة قريبةٌ من الأبرار ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً﴾ أي أدنيت ثمارها منهم، وسهل عليهم تناولها قال ابن عباس: إِذا همَّ أن يتناول من ثمارها تدلَّت إِليه حتى يتناول منها ما يريد.. ولما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم، وصف بعد ذلك شرابهم فقال ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ﴾ أي يدور عليهم الخدم بالأواني الفضية فيها الطعام والشراب على عادة أهل الترف والنعيم في الدنيا فيتناول كل واحدٍ منهم حاجته، وهذه الأواني هي الصّحاف بعضها من قضة وبعضها من ذهب كما قال تعالى ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ﴾ [الزخرف: ٧١] قال الرازي: ولا منافاة بين الآيتين، فتارةً يسقون


الصفحة التالية
Icon