بهذا، وتارة بذاك ﴿وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ﴾ أي وأكواب وهي كالأقداح رقيقة شفافة كالزجاج في صفائه قال في البحر: ومعنى ﴿كَانَتْ﴾ أن الله تعالى أوجدها بقدرته، فيكون تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها، وشفيف القوارير وصفائها ﴿قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ﴾ أي هي جامعة بين صفاء الزجاج، وحسن الفضة قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إِلا الأسماء يعني أن ما في الجنة أسمى وأشرف وأعلى ولو أخذت فضةً من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها، ولكنَّ قوارير الجنة ببياض الفضة، مع صفاء القوارير ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾ أي قدَّرها السُّقاة على مقدار حاجتهم، لا تزيد ولا تنقص، وذلك ألذُّ وأشهى قال ابن عباس: أتوابها على قدر الحاجة لا يفضلون شيئاً، ولا يشتهون بعدها شيئاً ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً﴾ أي يسقى هؤلاء الأبرار في الجنة كأساً من الخمر ممزوجةً بالزنجبيل، والعرب تستلذ من الشراب ما مزج بالزنجبيل لطيب رائحته قال القرطبي: فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة الطيب قال قتادة: الزنجبيل أسمٌ لعينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة ﴿عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً﴾ أي يشربون من عين في الجنة تسمى السلسبيل، لسهولة مساغها وانحدارها في الحلق قال المفسرون: السلسبيل: الماء العذب، السهل الجريان في الحلق لعذوبته وصفائه، وإِنما وصف بأنه سلسبيل، لأن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، ولكن ليس فيه لذعته، فيشعر الشاربون بطعمه، لكنهم لا يشعرون بحرافته، فيبقى الشراب سلسبيلاً، سهل المساغ في الحلق.
. ثم وصف بعد ذلك خدم أهل الجنة فقال ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾ أي ويدور على هؤلاء الأبرار، غلمانٌ ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين ﴿مُّخَلَّدُونَ﴾ أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء قال القرطبي: أي باقون على ما هم عليه من الشباب، والنضارة، والغضاضة، والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مرِّ الأزمنة ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً﴾ أي إِذا نظرتهم منتشرين في الجنة لخدمة أهلها، خلتهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإِشراق وجوهم، كأنهم اللؤلؤ المنثور قال الرازي: هذا من التشبيه العجيب، لأن اللؤلؤ إِذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر، لوقوع شعاع بعضه على بعض فيكون أروع وأبدع، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ أي وإِذا رأيت هناك ما في الجنة من مظاهر الأنس والسرور، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف، وملكاً واسعاً عظيماً لا غاية له، كما في الحديث القدسي «أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لاعينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطَر على قلب بشر» قال ابن كثير: وثبت في الصحيح أن «أقل أهل الجنة منزلةً من له قدر الدنيا عشرة أمثالها» فإِذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بمن هو أعلى منزلةً وأحظى عنده