كالأوتاد لتستقر وتسكن بأهلها ﴿مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ أي فعل ذلك كله، فأنبع العيون، وأجرى الأنهار، وأنبت الزرع والأشجار، كل ذلك منفعةً للعباد وتحقيقاً لمصالحهم ومصالح أنعامهم ومواشيهم، قال الرازي: أراد بمراعاها ما يأكله الناسُ والأنعام، بدليل قوله ﴿مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ وانظر كيف دلَّ بقوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام والأنعام من العشب، والشجر، والحب، والثمر، والعصف، والحطب، واللباس والدواء، حتى الملح والنار، فالملح متولد من الماء، والنارُ من الأشجار.. ولما ذكر تعالى خلق السموات والأرض، وما أبدع فيهما من عجائب الخلق والتكوين، ليقيم الدليل على إِمكان الحشر عقلاً، أخبر بعد ذلك عن وقوعه فعلاً فقال ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى﴾ أي فإِذا جاءت القيامة وهي الداهية العظمى، التي تعمُّ بأهوالها كل شيء، وتعلو على سائر الدواهي قال ابن عباس: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل أمرٍ هائل مفظع ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى﴾ أي في ذلك اليوم يتذكر الإِنسان ما علمه من خير أو شر، ويراه مدوَّناً في صحيفة أعماله ﴿وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى﴾ أي أظهرت جهنم للناظرين فرآها الناسُ عياناً، باديةً لكل ذي بصر.. وبعد أن وصف حال القيامة وأهولها، ذكر انقسام الناس إِلى فريقين: أشقياء وسعداء فقال ﴿فَأَمَّا مَن طغى﴾ أي جاوز الحدَّ في الكفر والعصيان ﴿وَآثَرَ الحياة الدنيا﴾ أي فضَّل الحياة الفانية على الآخرة الباقية، وانهمك في شهوات الحياة المحرَّمة، ولم يستعد لآخرته بالعمل الصالح ﴿فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى﴾ أي فإِنَّ جهنم المتأججة هي منزله ومأواه، لا منزل له سواها ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أي وأمَّا من خاف عظمة ربه وجلاله، وخاف مقامه بين يديْ ربه يوم الحساب، لعلمه ويقينه بالمبدأ والمعاد ﴿وَنَهَى النفس عَنِ الهوى﴾ أي وزجر نفسه عن المعاصي والمحارم، وكفَّها عن الشهوات التي تؤدي بها إِلى المعاطب ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ أي فإِن منزله ومصيره هي الجنة دار النعيم، ليس له منزل غيرها.
. ثم ذكر تعالى موقف المكذبين بالقيامة، المستهزئين بأخبار الساعة فقال ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أي يسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن القيامة متى وقوعها وقيامُها؟ قال المفسرون: كان المشركون يسمعون أنباء القيامة، ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل «طامة، وصاخة، وقارعة» فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى يوجدها الله ويقيمها، ومتى تحدث وتقع؟ فنزلت الآية ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾ أي ليس علمها إِليك حتى تذكرها لهم، لأنها من الغيوب التي استأثر الله بعلمها، فلماذا يسألونك عنها ويُلحّون في السؤال؟ ﴿إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ﴾ أي مردُّها ومراجعها إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، لا يعلمه أحد سواه ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ أي ما واجبك يا محمد إِلا إِنذار من يخاف القيامة، لا الإِعلام بوقتها، وخصَّ الإِنذار بمن يخشى، لأنه هو الذي ينتفع