بقوته، وكان يبسط له الأديم الجلد فيوضع تحت قدميه، ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلّ قدماه، ومعنى الآية: أيظن هذا القوي المارد، المستضعف للمؤمنين، أنه لن يقدر على الانتقام منه أحد؟ ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾ أي يقول هذا الكافر: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الألوسي: أي يقول فخراً ومباهاة على المؤمنين: أنفقت مالاً كثيراً، وأراد بذلك ما أنفقه «رياءً وسمعةً» وعبر عن الإِنفاق بالإِهلاك، إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع، فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً، وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ ؟ أي أيظن أنَّ الله تعالى لم يره حين كان ينفق، ويظن أن أعماله تخفى على رب العباد؟ ليس الأمر كما يظن، بل إن الله رقيب مطلعٌ عليه، سيسأله يوم القيامة ويجازيه عليه.
. ثم ذكَّره تعالى بنعمه عليه ليعتبر ويتعظ فقال ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾ أي ألم نجعل له عينين يبصر بهما؟ ﴿وَلِسَاناً﴾ أي ولساناً ينطق به فعيبر ما في ضميره؟ ﴿وَشَفَتَيْنِ﴾ أي وشفتين يطبقهما على فمه، ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلكظ قال الخازن: يريد أن نعم الله على عبده متظاهرة، يقرره بها كي يشكره ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ أي وبينا له طريق الخير والشر، والهدى والضلال، ليسلك طريق السعادة، ويتجنب طريق الشقاوة قال ابن مسعود: ﴿النجدين﴾ الخير والشر كقوله تعالى ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإِنسان: ٣] ﴿فَلاَ اقتحم العقبة﴾ أي فهلا أنفق ماله في اجتياز العقبة الكئود، بدل أن ينفقه في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟! قال في البحر: والعقبةُ استعارةٌ للعمل الشاق على النفس، من حيث فيه بذل المال، تشبيهاً لها بعقبة الجبل وهو ما صعب منه وقت الصعود، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها، ومعنى اقتحامها دخلها بسرعة وشدة، وهو مثلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، حتى ينال رضى الرحمن ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ أي وما أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفيه تعظيم لشأنها وتهويل.. ثم فسرها تعالى بقوله ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ أي هي عتق الرقبة في سبيل اله، وتخليص صاحبها من الأسر والرقِّ، فمن أعتق رقبة كانت له فداء من النار ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ أي أو أن يطعم الفير في يوم عصيب ذي مجاعة، قال الصاوي وقيد الإِطعام بيوم المجاعة، لأن إِخراج المال فيه أشد على النفس ﴿يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ أي أطعم اليتيم الذي بينه وبينه قرابة ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ أو المسكين الفقير البائس الذي قد لصق بالتراب من فقره وضره، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس: هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ أي عمل هذه القربات لوجه الله تعالى، وكان مع ذلك مؤمناً صادق الإِيمان قال المفسرون: وفي الآية إشارة أن هذه القُرَب والطاعات لا تنفع إِلا مع الإِيمان ﴿وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة﴾ أي وأوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإِيمان وطاعة الرحمن، وبالرحمة والشفقة على الضعفاء والمساكين ﴿أولئك أَصْحَابُ الميمنة﴾ أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الجليلة، هم أصحاب الجنة الذين يأخذون كتبهم