الفراش إِذا ثار لهم يتجه إِلى جهةٍ واحدة، بل كل واحدة منها تذهب إِلى غير جهة الأُخرى، فدلَّ على أنهم إِذا بُعثوا فزعوا، وأما وجه التشبيه بالجراج فهو في الكثرة، يصبحونن كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً، فكذلك الناس إِذا بُعثوا يموج بعضُهم في بعض كالجراد والفراش كقوله تعالى ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ [الكهف: ٩٩] ﴿وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش﴾ هذا هو الوصف الثاني من صفات ذلك اليوم المهول أي وتصير الجبال كالصوف المنتثر المتطاير، تتفرق أجزاؤها وتتطاير في الجو، حتى تكون كالصوف المتطاير عند الندف قال الصاوي: وإِنما جمع بين حال الناس وحال الجبال، تنبيهاً على أن تلك القارعة أثَّرت في الجبال العظيمة الصلبة، حتى تصير كالصوف المندوف مع كونها غير مكلفة، فكيف حال الإِنسان الضعيف المقصود بالتكليف والحساب!! ثم ذكر تعالى حالة الناس في ذلك اليوم، وانقسامهم إِلى شقي وسعيد فقال ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي رجحت موازين حسناته، وزادت حسناتُه على سيئاته ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ أي فهو في عيشة هنيءٍ رغيد سعيد، في جنان الخلد والنعيم ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي نقصت حسناته عن سيئاته، أول يكن له حسناتٌ يُعتدُّ بها ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ أي فمسكنه ومصيره نار جهنم يهوي في قعرها، سَّماها أُماّ لأ، الأم مأوى الولد ومفرزعة، فنار جهنم تؤوي هؤلاء المجرمين، كما يأوي الأولاد إِلى أمهم، وتضمهم إِليها كما تضم الأم الأولاد إِليها قال أبو السعود: ﴿هَاوِيَةٌ﴾ اسم من أسماء النار، سميت بها لغاية عمقها وبعد مهواها، روي أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفاً ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ ؟ استفهام للتفخيم والتهويل أي وما أعلمك ما الهاوية؟ ثم فسَّرها بقوله ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ أي هي نار شديدة الحرارة، قد خرجت عن الحد المعهود، فإِن حرارة أي نارٍ إِذا سُعرت وأُلقي فيها أعظم الوقود لا تعادل حرارة جهنم، أجارنا الله منها بفضله وكرمه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزه فيما يلي:
١ - الاستفهام للتفخيم والتهويل ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة﴾ ؟ ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ ؟
٢ - وضع الظاهر مكان الضمير للتخويف والتهويل ﴿القارعة مَا القارع﴾ ؟ والأصل أن يقال: القارعة ما هي؟
٣ - التشبيه المرسل المجمل ﴿يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث﴾ ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه أي في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، ومثله ﴿كالعهن المنفوش﴾ أي في تطايرها وخفة سيرها فيسمى مرسلاً مجملاً.
٤ - المقابلة ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ ثم قابلها بقوله ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٥ - المجاز العقلي ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ أي راضٍ بها صاحبها ففيه اسناد مجازي.


الصفحة التالية
Icon