التفسِير: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي ألم تر أيها الإِنسان العاقل أنَّ الله بقدرته أنزل المطر من السحاب ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض﴾ أي أدخله مسالك وعيوناً في الأرض وأجراه فيها قال المفسرون: وهذا دليلٌ على أن ماء العيون من المطر، تحبسه الأرض ثم ينبغ شيئاً فشيئاً قال ابن عباس: ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكنْ عروق الأرض تغيِّره ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾ أي ثم يُخرج بهذا الماء النازل من السماء والنابع من الأرض أنواع الزروع، المختلفة الأشكال والألوان، من أحمر وأبيض وأصفر، والمختلفة الأصناف من قمح وأرز وعدس وغير ذلك قال البيضاوي: ﴿مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾ أي أصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ أي ثم ييبس فتراه بعد خضرته مصفراً ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً﴾ أي ثم يصبح فتاتاً وهشيماً متكسراً ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب﴾ أي إنَّ فيما ذُكر لعظة وعبرة، ودلالةً على قدرة الله ووحدانيته لذوي العقول المستنيرة.. والآية فيها تمثيلٌ لحياة الإِنسان بالحياة الدنيا، فمهما طال عمر الإِنسان فلا بدَّ من الانتهاء، إلى أن يصير مصفر اللون، متحطم الأعضاء، متكسراً كالزرق بعد نضرته، ثم تكون عاقبته الموت قال ابن كثير: هكذا الدنيا تكون خضرة ناضرة حسناء، ثم تعود عجوزاً شوهاء، وكذلك الشاب يعود شيخاً هرماً، كبيراً ضعيفاً، وبعد ذلك كله الموت، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ أي وسَّع صدره للإِسلام، واستضاء قلبه بنوره حتى ثبت ورسخ فيه ﴿فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي فهو على بصيرة ويقين من أمر دينه، وعلى هدىً من ربه بتنوير الحق في قلبه، وفي الآية محذوفٌ دلَّ عليه سياق الكلام تقديره كمن هو أعمى القلب، معرضٌ عن الإِسلام؟ قال الطبري: وتُرك الجوابُ اجتزاءً بمعرفة السامعين وبدلالة ما بعده وتقديره: كمن أقسى اللهُ قلبه وأخلاه من ذكره حتى ضاق عن استماع الحق، واتباع الهدى ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله﴾ أي فويلٌ للذين لا تلين قلوبهم ولا تخشع عند ذكر الله، ب «ذكر الله» القرآن الذي أنزله الله تذكرة لعباده ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي أولئك الذين قست قلوبهم في بعدٍ عن الحق ظاهر.
. ولما بيَّن تعالى ذلك أردفه بما يدل على أنَّ القرآن سبب لحصول النور والهداية والشفاء فقال ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ أي اللهُ نزَّل القرآن العظيم أحسن الكلام قال أبو حيان: والابتداءُ باسم «اللهُ» وإسناد «نزَّل» لضميره، فيه تفخيمٌ للمُنزل، ورفعٌ من قدره كما تقول: الملكُ أكرم فلاناً، فإِنه أفخم من أكرم الملك فلاناً، وحكمةُ ذلك البداءةُ بالأشرف ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾ أي قرآناً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الفصاحة، والبلاغة، والتناسب، بدون تعارضٍ ولا تناقض ﴿مَّثَانِيَ﴾ أي تُثنَّى وتكرر فيه المواعظ والأحكام، والحلال والحرام، وتُردَّد فيه القصص والأخبار دون سأم أو ملل قال الطبري: تُثنَّى أي تكرر فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أي تعتري هؤلاء المؤمنين خشيةٌ،


الصفحة التالية
Icon