رأوا الشدائد والأهوال ربَّنا أمتَّنا مرتين، وأحييتنا مرتين ﴿فاعترفنا بِذُنُوبِنَا﴾ أي فاعترفنا بما جنيناه من الذنوب في الدنيا ﴿فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾ أي فهل تردنا إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؟ وهل تخرجنا من النار لنسلك طريق الأبرار؟ قال المفسرون: الموتةُ الأولى حين كانوا في العمد، والموتة الثانية حين ماتوا في الدنيا، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياةُ البعث يوم القيامة، فهاتان موتتان وحياتان، وإنما قالوا ذلك على سبيل التعطف والتوسل إلى رضى الله، بعد أن عاينوا العذاب، وقد كانوا يكفرون وينكرون، ولهذا جاء الجواب ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ﴾ أي ذلكم العذاب والخلود في جهنم بسبب كفركم وعدم إيمانكم بالله، فإِذا دعيتم إلى التوحيد كفرتم ﴿وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ﴾ وإن دعيتم إلى اللت والعزَّى وأمثالهما من الأصنام، آمنت وصدَّقتم بألوهيتها ﴿فالحكم للَّهِ العلي الكبير﴾ أي فالقضاء لله وحده، لا للأوثان والأصنام، ولا سبيل إلى نجاتكم، لأن الله هو المتعالي على خلقه، العظيم في ملكه الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
. ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، أردفه بذكر ما يدل على كما قدرته وحكمته ليصير بمنزلة البرهان على عدم جواز عبادة الأوثان فقال ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ أي الله جل وعلا هو الذي يريكم أيها الناس العلامات الدالة على قدرته الباهرة في مخلوقاته، في العالم العلوي والسفلي الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً﴾ أي وينزِّل لكم من السماء المطر الذي هو سبب للرزق، وبه تخرج الزروع والثمار ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ﴾ أي وما يعتبر ويتعظ بهذه الآيات الباهرة، إلا من يرجع إلى الله بالتوبة والإِنابة، العمل الصالح البعيد عن الرياء والنفاق ﴿فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون مخلصين له العبادة والطاعة ولا تعبدوا معه غيره ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ هذا للمبالغة أي اعبدوه وأخلصوا له قلوبكم، حتى ولو كره الكافرون وذلك، وغاظهم إخلاصكم وقاتلكم عليه ﴿رَفِيعُ الدرجات﴾ أي عظيم الشأن والسلطان، صاحب الرفعة والمقام العالي ﴿ذُو العرش﴾ أي صاحب العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات، ولا شيء يشبهه من مخلوقات الله قال ابن كثير: أخبر تعالى عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرضه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، وقد ذُكر أن العرش من ياقوتةٍ حمراء ولا يعلم سعته إلا الله وقال أبو السعود: وكونُ العرض العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي، تحت ملكوته وقبضة قدرته، مما يقضي بكون علو شأنه وعظم سلطانه، في غايةٍ لا غاية وراءها ﴿يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي نزل الوحي على من يشاء من خلقه، ويختص بالرسالة والنبوة من أراد من عباده، وإِنما سمَّى الوحي روحاً لأنه يسري في القلوب كسريان الروح في الجسد قال القرطبي: سمَّاه روحاً لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح ﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق﴾ أي ليخوِّف الرسول الموحَى إليه يوم القيامة الكبرى، حيث يلتقي العباد جميعاً ليحاسبوا


الصفحة التالية
Icon