إِلَّا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَأَهْلَ تُونُسَ فَهُمْ عَلَى مَا نَعْلَمُ أَفْصَحُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ نُطْقًا بِالضَّادِ، وَإِنَّنَا نَجِدُ أَعْرَابَ الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا يَنْطِقُونَ بِالضَّادِ فَيَحْسَبُهَا السَّامِعُ ظَاءً لِشِدَّةِ قُرْبِهَا مِنْهَا وَشَبَهِهَا بِهَا. وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ الْأَوَّلِينَ حَتَّى اشْتَبَهَ نَقَلَةُ الْعَرَبِيَّةِ عَنْهُمْ فِي مُفْرَدَاتٍ كَثِيرَةٍ قَالُوا: إِنَّهَا سُمِعَتْ بِالْحَرْفَيْنِ وَجَمَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا مِنْهُمْ فَلَمْ يُفَرِّقُوا، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ بَعِيدٍ.
وَقَدْ قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) بِكُلٍّ مِنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ، وَالضَّنِينُ: الْبَخِيلُ، وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَفَائِدَتُهُمَا نَفْيُ كُلٍّ مِنَ الْبُخْلِ وَالتُّهْمَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا هُوَ بِبَخِيلٍ فِي تَبْلِيغِهِ فَيَكْتُمَ، وَلَا بِمُتَّهَمٍ فَيَكْذِبَ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَهُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بِالظَّاءِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بِالضَّادِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهِمَا. وَإِتْقَانُ الْفَصْلِ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَاجِبٌ، وَمَعْرِفَةُ مَخْرَجَيْهِمَا مِمَّا لَا بُدَّ
مِنْهُ لِلْقَارِئِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَجَمِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ، وَإِنْ فَرَّقُوا فَفَرْقًا غَيْرُ صَوَابٍ وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَإِنَّ مَخْرَجَ الضَّادِ مِنْ أَصْلِ حَافَّةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأَضْرَاسِ مِنْ يَمِينِ اللِّسَانِ وَيَسَارِهِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَضْبَطَ: يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ، وَكَانَ يُخْرِجُ الضَّادَ مِنْ جَانِبَيْ لِسَانِهِ، وَهِيَ أَحَدُ الْأَحْرُفِ الشَّجَرِيَّةِ أُخْتُ الْجِيمِ وَالشِّينِ، وَأَمَّا الظَّاءُ فَمَخْرَجُهَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا. وَهِيَ أَحَدُ الْأَحْرُفِ الذَّوْلَقِيَّةِ، أُخْتُ الذَّالِ وَالثَّاءِ، وَلَوِ اسْتَوَى الْحَرْفَانِ لَمَا ثَبَتَتْ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ قِرَاءَتَانِ اثْنَتَانِ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنْ جِبَالِ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ. وَلَمَا اخْتَلَفَ الْمَعْنَى وَالِاشْتِقَاقُ وَالتَّرْكِيبُ. اهـ.
وَأَقُولُ: صَدَقَ أَبُو الْقَاسِمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَحْقِيقِهِ هَذَا كُلِّهِ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّ الْبَوْنَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ بَعِيدٌ، فَالْفَرْقُ ثَابِتٌ وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِإِخْرَاجِ طَرَفِ اللِّسَانِ بِالظَّاءِ بَيْنَ الثَّنَايَا كَأُخْتَيْهِ الثَّاءِ وَالذَّالِ، وَلَا شِرْكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إِلَّا فِي هَذَا.
(التَّوَسُّعُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ مَعْنَى الْفَاتِحَةِ)
إِنَّ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ مِنْ تَلْخِيصٍ لِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ دُرُوسِ شَيْخِنَا وَمِمَّا قَرَأْنَاهُ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ مَا زِدْنَاهُ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ وَفِي هَذِهِ الْفَوَائِدِ الزَّوَائِدِ، فَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّفَقُّهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءُ بِهِ، وَقَدِ اقْتَصَدْنَا فِيهِ، فَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا لَا يَشْغَلُ الْقَارِئَ عَنِ الْمَقْصِدِ، وَقَدْ أَطَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي اسْتِطْرَادَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَمَسَائِلَ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ لَوَازِمَ لِلْمَعَانِي قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، وَلَكِنَّهَا تَشْغَلُ مُرِيدَ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَأَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " مَدَارِجِ السَّالِكِينَ " الْقَوْلَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثَةِ: الْمُطَابَقَةُ، وَالتَّضَمُّنُ، وَالِالْتِزَامُ، وَأَخَذَ فِي الثَّالِثَةِ بِاللُّزُومِ الْبَيِّنِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَبِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ بِاللُّزُومِ غَيْرِ الْبَيِّنِ أَيْضًا، بَلْ سَمَّى كِتَابَهُ " مَدَارِجَ السَّالِكِينَ، بَيْنَ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " وَأَجْمَلَ ذَلِكَ.


الصفحة التالية
Icon