وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ نُصُوصٌ قَطْعِيَّةٌ لَا يَجُوزُ تَخَلُّفُهَا مُطْلَقًا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِي بَعْضِ الْعُصَاةِ حَقٌّ، فَإِذَا عُورِضَتْ نُصُوصُ الْعِقَابِ الْمُطْلَقَةُ بِنُصُوصِ الْمَغْفِرَةِ الْمُطْلَقَةِ، جَاءَتِ النُّصُوصُ الْمُقَيِّدَةُ لَهَا بِالتَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ حُكْمًا جَامِعًا بَيْنَ الْمُطْلَقَاتَ، وَبَقِيَ الْخَطَرُ عَلَى غَيْرِ التَّائِبِ الْمُصْلِحِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُغَلِّبَ الْخَوْفُ عَلَى الرَّجَاءِ - إِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى غُرُورُهُ بِجَهْلِهِ رَجَاءً - وَمَا الرَّجَاءُ الصَّحِيحُ إِلَّا لِمَنْ سَعَى إِلَى الْمَغْفِرَةِ سَعْيَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ وَرَجَاءِ اللهِ قَبُولَهَا.
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا | إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ |
الْآثَارِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي كُفْرًا إِلَّا تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَا اعْتَمَدْنَاهُ فِي تَأْوِيلِهَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَتْرُكُهَا فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يُصَلِّيهَا إِلَّا قَلِيلًا لِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ يَتْرُكُ صَلَاةً أَوْ صَلَوَاتٍ قَلِيلَةً مُتَفَرِّقَةً لِأَمْرٍ عَارِضٍ ثُمَّ يَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ عَلَى الْوُعَّاظِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِهَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ خَطَرَ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا وَرَدَ فِي أَخْبَارٍ وَآثَارٍ كَثِيرَةٍ اكْتَفَيْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ بِذِكْرِ بَعْضِهَا، وَلِيُرَاجِعْ جُمْلَتَهَا مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ كِتَابِ الزَّوَاجِرِ فَهِيَ مُخِيفَةٌ جِدًّا.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهَا: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إِلَى آخِرِهِ مِنْ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَهِيَ تَسْتَثْنِي مِنْهُمْ مَنْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ، لِيَعْلَمَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بَلَاغًا تَامًّا مُقْنِعًا، وَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ - وَهُوَ الْآيَةُ الْمُعْجِزَةُ لِلْبَشَرِ الدَّالَّةُ بِذَاتِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لَا مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنَّمَا أَعْرَضُوا وَعَادَوُا الدَّاعِيَ وَقَاتَلُوهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِتَفْنِيدِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ طُبِعُوا عَلَى نُعَرَةِ الْعَصَبِيَّةِ لَهُمْ وَالنِّضَالِ دُونَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَضَمَّنِ الدَّعْوَةُ الْحُكْمَ بِجَهْلِهِمْ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ، لَمَا احْتَمَوْا عَلَيْهَا كُلَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَاءِ، وَقَابَلُوهَا بِكُلِّ ذَلِكَ الْعَدَاءِ، وَيَلِيهَا فِي ذَلِكَ تَحْقِيرُ آلِهَتِهِمْ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعَقِيدَةِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ كُلَّ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٦٨: ٩) وَإِذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَوَّلُ الْأَهَمُّ الْمَقْصُودُ مِنَ الرِّسَالَةِ - وَإِنَّمَا