وَالتَّأْكِيدِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ مَعَ مَا يُعْهَدُ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيجَازِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَقَدْ عَدَّ الْقَفَّالُ هَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ فِي الْآيَةِ فَبَلَغَتْ تِسْعَةً. أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَمْرًا وَنَهْيًا.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ وَجْهًا آخَرَ لِلِاتِّصَالِ فِي النَّظْمِ عَزَاهُ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ " قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُدَايَنَةِ السَّلَمُ، فَاللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَمَّا مَنَعَ الرِّبَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَذِنَ فِي السَّلَمِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الرِّبَا حَاصِلَةٌ فِي السَّلَمِ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا لَذَّةَ وَلَا مَنْفَعَةَ يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالطَّرِيقِ الْحَرَامِ إِلَّا وَضَعَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِتَحْصِيلِ مِثْلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ طَرِيقًا حَلَالًا وَسَبِيلًا مَشْرُوعًا ". اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّبَا الْقَطْعِيِّ الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَبَيْنَ السَّلَمِ أَنَّ الرِّبْحَ فِي السَّلَمِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً كَرِبَا النَّسِيئَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا مَعَ إِبَاحَةِ السَّلَمِ فَائِدَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِي أُمُورِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَعَايِشِ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ، وَإِذْ قَدْ فَهِمْتَ وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا فَهَاكَ تَفْسِيرَهُمَا وَفِيهِمَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ:
[١] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ تَدَايَنْتُمْ: دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَى تَعَامَلْتُمْ بِالدَّيْنِ وَبِمَعْنَى تَجَازَيْتُمْ، وَلَمَّا قَالَ بِدَيْنٍ؛
تَعَيَّنَ الْمَعْنَى بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ: الْمَالُ الَّذِي يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ، لَا الْمَصْدَرُ. وَقَدْ حَمَلَ الْمُدَايَنَةَ بَعْضُهُمْ عَلَى السَّلَفِ (السَّلَمِ) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ اللهَ قَدْ أَحَلَّهُ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْقَرْضِ وَضَعَّفَهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَجَلُ، وَمَا فِي الْآيَةِ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ الْأَجَلُ. وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الضَّعِيفُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الدَّيْنَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْقَرْضَ وَالسَّلَمَ وَبَيْعَ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالْأَجَلُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِإِنْهَاءِ شَيْءٍ وَالْمُسَمَّى الْمُعَيَّنُ بِالتَّسْمِيَةِ كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ مَثَلًا. بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ إِجْمَالًا بَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا وَمَنْ يَتَوَلَّاهَا فَقَالَ:
[٢] وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ أَيْ لِيَكُنْ فِيكُمْ كَاتِبٌ لِلدُّيُونِ عَادِلٌ فِي كِتَابَتِهِ يُسَاوِي بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِهِمَا فَيَجْعَلُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ مَا لَيْسَ لَهُ وَلَا يَمِيلُ عَنِ الْآخَرِ فَيَبْخَسُهُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَاكْتُبُوهُ أَمْرٌ عَامٌّ لِلْمُتَعَامِلِينَ، وَفِيهِمُ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ; وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْكَاتِبِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِشُرُوطِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَحْفَظُ الْحُقُوقَ ; لِأَنَّ الْكَاتِبَ الْجَاهِلَ قَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ الشُّرُوطِ أَوْ يَزِيدُ فِيهَا أَوْ يُبْهِمُ فِي الْكِتَابَةِ بِجَهْلِهِ فَيَلْتَبِسُ بِذَلِكَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَضِيعُ حَقُّ أَحَدِ الْمُتَعَامِلِينَ، كَمَا يَضِيعُ بِتَعَمُّدِ التَّرْكِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْإِبْهَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَادِلًا، وَافَقَهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ. أَقُولُ: وَقَدْ يُغْنِي عَنْ أَخْذِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ - قَوْلُهُ:


الصفحة التالية
Icon