-[٣] وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَإِنَّ تَعْلِيمَ اللهِ إِيَّاهُ لَيْسَ خَاصًّا بِصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ، بَلْ هُوَ يَعُمُّ مَا وَفَّقَهُ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَالْفِقَهِ فِيهَا فَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ ضَمَانًا تَامًّا إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَالِمًا بِمَا يَجِبُ عِلْمُهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالشُّرُوطِ الْمَرْعِيَّةِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، وَكَانَ عَادِلًا مُسْتَقِيمًا لَا غَرَضَ لَهُ إِلَّا بَيَانُ الْحَقِّ، كَمَا هُوَ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ وَلَا مُرَاعَاةٍ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ صِفَةَ الْعَدَالَةِ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدْلًا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَنْبَغِي لِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تَهْدِيهِ إِلَى ذَلِكَ. وَمَنْ كَانَ عَالِمًا غَيْرَ عَدْلٍ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ لَا يَهْدِيهِ إِلَى الْعَدَالَةِ. قَلَّمَا يَقَعُ فَسَادٌ مِنْ عَدْلٍ نَاقِصِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ الْفَسَادِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَاقِدِينَ لِمَلِكَةِ الْعَدَالَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَاتِبَ الْعُقُودِ وَالْوَثَائِقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْكَمَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَخُطُّ بِالْقَلَمِ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَهْلُهُ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَاضِيَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. وَقَالَ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي وَصْفِ الْكَاتِبِ إِرْشَادٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِتِلْكَ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ إِلَى نِظَامٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَاتِبُ الدُّيُونِ عَادِلًا عَارِفًا بِالْحُقُوقِ وَالْأَحْكَامِ فِيهَا حَتَّى لَا يَقَعَ التَّنَازُعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْتُبُهُ، وَإِرْشَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ فِيهِمْ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْكُتَّابِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِإِيجَادِ الْمُقْتَدِرِينَ عَلَى كِتَابَةِ الْعُقُودِ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الْيَوْمَ: الْعُقُودَ الرَّسْمِيَّةَ، وَيَتَحَتَّمُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ. قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْكَاتِبَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ - وَإِنْ كَانَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ - لِئَلَّا يُغَالِطَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ يَغُشَّهُ وَكَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ حَتْمٌ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ، فَإِنَّ لِلْعُقُودِ الرَّسْمِيَّةِ كُتَّابًا يَخْتَصُّونَ بِهَا. أَقُولُ: وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ النَّاسِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا دُعِيَ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِبَاءِ عَنِ الْكِتَابَةِ، بَلْ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا صَرِيحًا فَقَالَ: فَلْيَكْتُبْ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مَنْ أَهْلِ الْأُصُولُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ غَرِيبٌ فِي نَظَرِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا.
[٤] وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، أَيْ وَلْيُلْقِ عَلَى الْكَاتِبِ مَا يَكْتُبُهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ، لِيَكُونَ إِمْلَالُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ تُبَيِّنُهَا الْكِتَابَةُ وَتَحْفَظُهَا. وَالْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ وَاحِدٌ، يُقَالُ: أَمَلَّ عَلَى الْكَاتِبِ وَأَمْلَى عَلَيْهِ إِذَا أَلْقَى عَلَيْهِ مَا يَكْتُبُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ اللَّامُ. وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ فِي إِمْلَالِهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ كَامِلًا وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا، أَيْ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا مَا، وَإِنْ قَلَّ. أَمَرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِتَقْوَى اللهِ فِي إِمْلَالِهِ عَلَى الْكَاتِبِ وَذَكَّرَهُ بِأَنَّ اللهَ رَبَّهُ الَّذِي غَذَّاهُ بِنِعَمِهِ وَسَخَّرَ لَهُ قَلْبَ الدَّائِنِ فَبَذَلَ لَهُ مَالَهُ لِيَحْمِلَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِجَلَالِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْهِيبِ، وَبِجَمَالِ نِعَمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْغِيبِ عَلَى شُكْرِ اللهِ


الصفحة التالية
Icon