تُعْتَبَرُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شَرْطِهَا، أَقُولُ: وَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ ذِكْرُ الصَّغِيرِ الَّذِي يَتَهَاوَنُ فِيهِ النَّاسُ لِعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِضَيَاعِهِ، وَمَنْ لَا يَحْرِصُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْقَلِيلِ أَنْ يَضِيعَ فَقَلَّمَا يُتْقِنُ حِفْظَ الْكَبِيرِ وَالْكَثِيرِ، فَفِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى عَدَمِ التَّهَاوُنِ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُقُوقِ أَنْ يَذْهَبَ
سُدًى، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الِاقْتِصَادِ، وَالْعَمَلُ بِهَا آيَةُ الْكِيَاسَةِ وَالْعَقْلِ، وَكَمْ مِنْ حَرِيصٍ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدَّانَقِ يَجُودُ بِالدَّنَانِيرِ وَالْبَدْرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ لَا الْوَاحِدِ مِنْهَا وَتِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْحُكْمِ، وَعِلَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَعْدَ ذِكْرِهِمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ لِلْإِشْهَادِ وَقِيلَ: لِلْكِتَابِ ; أَيِ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ إِلَى الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَقْسَطَ عِنْدَ اللهِ أَنَّهُ أَعْدَلُ فِي حُكْمِهِ، أَيْ أَحْرَى بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْعَامِلِينَ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَقْوَمَ لِلشَّهَادَةِ أَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَطْلُبَ وَثِيقَةَ الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ لِيَتَذَكَّرَ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَقُومَ لِلشَّهَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابَةِ حَتْمًا وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمْلَاءِ، فَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا مَعْنَاهُ وَأَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاءِ ارْتِيَابِ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِيَاطَ فِي كِتَابَةِ الْحُقُوقِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا وَتَقْوَى اللهِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْمُتَعَامِلِينَ وَالْكُتَّابِ وَالشُّهَدَاءِ يَمْنَعُ كُلَّ رِيبَةٍ وَكُلَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِارْتِيَابِ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْعَدَاوَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمُرَادُ انْتِفَاءُ الرَّيْبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي جِنْسِ الدَّيْنِ وَقَدْرِهِ وَأَجَلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِنَا، وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ ثَالِثَةٌ لِلْكِتَابَةِ تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِالْأَخْذِ بِهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَجَعْلِهَا مُذَكِّرَةً لِلشُّهُودِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا إِذَا اسْتَوْفَيَتْ شُرُوطَهَا.
[١١] إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا قَرَأَ عَاصِمٌ تِجَارَةً بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَالْإِعْرَابُ ظَاهِرٌ عَلَى الْحَالَيْنِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ: الْإِشْهَادُ، وَقِيلَ هُمَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ وَاجِبٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُعَامَلَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، أَوْ إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ
حَاضِرَةٌ تُدَارُ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ بِالتَّعَاطِي بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوِ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ كِتَابَتِهَا وَلَا إِثْمَ ; إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الِارْتِيَابِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ


الصفحة التالية
Icon