أَقُولُ: وَفِي نَفْيِ الْجُنَاحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَهُوَ إِرْشَادٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ ضَبْطِ الْإِنْسَانِ لِمَالِهِ وَإِحْصَائِهِ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْكَمَالِ الْمَدَنِيِّ وَمِنْ أَسْبَابِ ارْتِقَاءِ أُمُورِ الْكَسْبِ وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا حَتْمًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى غَيْرِ الْمُرْتَقِينَ فِي الْمَدَنِيَّةِ، وَالتَّرْخِيصُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ كِتَابَةِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
[١٢] وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا التَّبَايُعُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَهُوَ التِّجَارَةُ الْحَاضِرَةُ، وَقِيلَ: مُطْلَقًا. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْأَوَّلَ، قَالَ: لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْكَالِئِ يَسْتَلْزِمُ الدَّيْنَ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَالْإِشْهَادُ لَازِمٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمُجَاحِدِينَ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذِهِ الْمُجَاحَدَةِ أَنْ تَحْصُلَ عَنْ قَرِيبٍ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِالْإِشْهَادِ لِتَلَافِي مَا عَسَاهُ يَقَعُ مِنْهَا، وَأَمَّا الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ فَرُبَّمَا يَقَعُ التَّنَازُعُ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يَطُولُ زَمَنُهَا لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ بَعِيدًا؛ فَلِهَذَا وَجَبَتْ كِتَابَتُهَا وَشُرِعَ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهَا بِالْكِتَابَةِ.
[١٣] وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ لَفْظُ " يُضَارَّ " يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَدْ قَرَءُوا بِفَكِّ الْإِدْغَامِ. فَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْأَوَّلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الثَّانِي. وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرًا لَا قِرَاءَةً، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ نَهْيُ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ أَنْ يَضُرَّا أَحَدَ الْمُتَعَامِلِينَ بِعَدَمِ الْإِجَابَةِ أَوْ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الثَّانِي نَهْيُ الْمُتَعَامِلِينَ عَنْ ضَرِّ الْكَاتِبِ أَوِ الشَّهِيدِ بِأَنْ يُدْعَيَا إِلَى ذَلِكَ وَهُمَا مَشْغُولَانِ بِمُهِمٍّ لَهُمَا فَيُكَلَّفَانِ تَرْكَهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجِيءُ الْكَاتِبَ فَيَقُولُ: " اكْتُبْ لِي " فَيَعْتَذِرُ بِعُذْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ أَنْ تَكْتُبَ فَيُلْزَمُ بِذَلِكَ وَيُضَارُّ فَنَزَلَتْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا إِلَّا إِذَا كَانَ نُزُولُ هَذَا النَّهْيِ مُتَرَاخِيًا عَنْ نُزُولِ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ وَهُمَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَأَقْوَى مِنْهَا فِي تَأْيِيدِهِ: مَا قَدِ اشْتَرَطَ فِي
الْكَاتِبِ وَالشُّهَدَاءِ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَضَارَّةِ، فَبَقِيَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُتَعَامِلُونَ بِعَدَمِ مَضَارَّةِ الْكُتَّابِ وَالشُّهَدَاءِ بِإِلْزَامِهِمْ بِتَرْكِ مَنَافِعِهِمْ لِأَجْلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ أَوْ بِتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ بِلَا عِوَضٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّهْيِ أَنَّهُ عَنْ مَضَارَّةِ الْمُتَعَامِلِينَ لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ. وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى إِعْطَائِهِمَا أُجْرَةً مَا يَحْمِلَانِ مِنَ الْكُلْفَةِ لَمْ يَكُنْ بِبَعِيدٍ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِـ " يُضَارَّ " الْبِنَاءُ لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ، وَاسْتُعْمِلَ " يُضَارَّ " الدَّالُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ضُرَّ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ ضُرٌّ لِنَفْسِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ وَإِنْ تَفْعَلُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ مِنْ إِضْرَارِ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ خُرُوجٌ بِكُمْ عَنْ حُدُودِ طَاعَةِ اللهِ


الصفحة التالية
Icon