تَعَالَى - إِلَى مَعْصِيَتِهِ وَأُشِيرَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ) إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الْفِسْقُ لَا يَكَادُ يَقَعُ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِيمَانِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ.
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْمَوْعِظَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُعِينُ النَّفْسَ عَلَى الِامْتِثَالِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيِ اتَّقَوُا اللهَ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ مَا فِيهِ قِيَامُ مَصَالِحِكُمْ وَحِفْظُ أَمْوَالِكُمْ وَتَقْوِيَةُ رَابِطَتِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَوْلَا هِدَايَتُهُ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا شَرَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَشْرَعُهُ عَنْ عِلْمٍ مُحِيطٍ بِأَسْبَابِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ لِمَنِ اتَّبَعَ شَرْعَهُ، وَكُرِّرَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ لِكَمَالِ التَّذْكِيرِ وَقُوَّةِ التَّأْثِيرِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: كُرِّرَ لَفْظُ اللهِ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ لِاسْتِقْلَالِهَا، فَإِنَّ الْأُولَى حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى، وَالثَّانِيَةُ وَعْدٌ بِإِنْعَامِهِ، وَالثَّالِثَةُ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي التَّعْظِيمِ مِنَ الْكِنَايَةِ. وَهَذَا مَبْنَيٌّ عَلَى أَنِ الثَّانِيَةَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقِيلَ: هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ فِي مَعْنَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ أَنَّ التَّقْوَى تَكُونُ سَبَبًا لِلْعِلْمِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ وَمَا يَأْتُونَهُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاضَةِ وَتِلَاوَةِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ تُثْمِرُ لَهُمُ الْعُلُومَ الْآلِهِيَّةَ وَعِلْمَ النَّفْسِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ بِدُونِ تَعَلُّمٍ. وَهَذَا الزَّعْمُ فَتَحَ لِلْجَاهِلِينَ
الَّذِينَ يَلْبَسُونَ لِبَاسَ الصَّلَاحِ دَعْوَى الْعِلْمِ بِاللهِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَالْعَامَّةُ تُسَلِّمُ لَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَى وَتُصَدِّقُ قَوْلَهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَعْلِيمَهُمْ وَيُسَمُّونَ عِلْمَهُمْ هَذَا بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ. وَيُرَدُّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ سِيبَوَيْهِ وَلَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَطْفَ يُعَلِّمُكُمْ عَلَى اتَّقُوا اللهَ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جَزَاءً لَهُ وَمُرَتَّبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. وَلَوْ قَالَ " يُعَلِّمْكُمْ " بِالْجَزْمِ لَكَانَ مُفِيدًا لَمَا قَالُوهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوِ اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ لَامُ التَّعْلِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الْمُسَبَّبِ سَبَبًا وَالْفَرْعِ أَصْلًا وَالنَّتِيجَةِ مُقَدِّمَةً، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَعْقُولَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الَّذِي يُثْمِرُ التَّقْوَى، فَلَا تَقْوَى بِلَا عِلْمٍ فَالْعِلْمُ هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْمِعْوَلُ. وَبَعْدَ أَنْ أَطَالَ بَعْضَ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الْعِلْمِ فِي الْإِرَادَةِ بِتَوْجِيهِهَا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَصَرْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ - وَتِلْكَ هِيَ التَّقْوَى - قَالَ: إِنَّنَا لَا نُنْكِرُ الْعِلْمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ لَدُنِّيًّا، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِذَلِكَ الطَّرِيقِ الْجَائِرِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَهْلُ، وَنَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِاللهِ - تَعَالَى - وَالْعِلْمَ بِالشَّرْعِ وَالْعَمَلَ بِهِ مَعَ الْإِخْلَاصِ قَدْ يَصْرِفُ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الْمُخْلِصَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - حَتَّى يَكُونَ كَالْمُنْفَصِلِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ عَنِ الْعَالَمِ الطَّبِيعِيِّ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ إِشْرَافٌ عَلَى مَا لَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ يَعْنِي مِنْ أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّحَقُّقِ بِبَعْضِ الْمَعَارِفِ الْغَيْبِيَّةِ، فَيَعْلَمُ مِمَّا قَصَّهُ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ الْآخِرَةِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ كُلُّ نَاظِرٍ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ فِي الْكِتَابِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا يَدَّعِيهِ أَعْوَانُ الْجَهْلِ وَأَعْدَاءُ الْعِلْمِ!


الصفحة التالية
Icon