وَأَقُولُ: إِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى زَعْمِهِمْ ذَلِكَ بِآيَةٍ أُخْرَى تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ كَتَبَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهَا بِمَعْنَى مَا قَالُوهُ هُنَا وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [٨: ٢٩] الْآيَةَ وَهُوَ غَلَطٌ. فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَثَرِ الْفُرْقَانَ هُنَا بِالْمَخْرَجِ، فَالشَّرْطِيَّةُ عِنْدَهُ كَالشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [٦٥: ٢] وَبَعْضُهُمْ بِالنَّجَاةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالنَّصْرِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَمُعْظَمُهَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ وَاقِعَةِ بَدْرٍ، وَكَانُوا فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ كَانَ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَا نُصِرُوا عَلَى
قِلَّتِهِمْ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ الَّتِي جَمَعَتْ كَلِمَتَهُمْ وَقَوَّتْ عَزِيمَتَهُمْ. وَالتَّقْوَى تَكُونُ سَبَبَ الْفُرْقَانِ وَالْمَخْرَجِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ اتِّقَاءِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ وَالْخُذْلَانِ فِي النَّفْسِ وَفِي الْخَارِجِ ; وَلِذَلِكَ يُفَسَّرُ الْمَخْرَجُ فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ - وَهِيَ فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ - بِمَا لَا يُفَسَّرُ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَهِيَ فِي مَقَامِ الْمُدَافِعَةِ وَالْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَأَهْلِهَا.
هَذَا وَإِنَّ الْفُرْقَانِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الصُّبْحُ الَّذِي يَفْرُقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ فُرْقَانًا؛ لِأَنَّهُ كَالصُّبْحِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتَقْوَى اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا تُعْطِي صَاحِبَهَا نُورًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ دَقَائِقِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَهِيَ تُفِيدُهُ عِلْمًا خَاصًّا لَمْ يَكُنْ لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهِ لَوْلَاهَا. وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْعِلْمِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّلْقِينِ كَالشَّرْعِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَهُوَ مَا لَا تَتَحَقَّقُ التَّقْوَى بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ - فِعْلًا وَتَرْكًا - بِعِلْمٍ، فَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّقْوَى وَسَبَبُهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ".
وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْعُهَا وَثَمَرَتُهَا هُوَ مَا تَفْطَنُ لَهُ النَّفْسُ بَعْدُ فَيُفِيدُهَا الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ الْأَوَّلِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ فِي النَّفْسِ مُجْمَلًا مُبْهَمًا حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَإِذَا عُمِلَ بِهِ صَارَ مُفَصَّلًا جَلِيًّا رَاسِخًا تَتَبَيَّنُ بِهِ الدَّقَائِقُ وَالْخَفَايَا. وَبِذَلِكَ تَفْطَنُ نَفْسُ الْعَامِلِ إِلَى مَسَائِلَ أُخْرَى تَطْلُبُهَا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْبَحْثِ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهَا كَمَا يَعْرِفُ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: " وَمَنْ تَعَلَّمَ فَعَمِلَ عَلَّمَهُ اللهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ " رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ " مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَإِذَا عَلِمْتَ
أَنَّ التَّقْوَى عَمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ


الصفحة التالية
Icon