لَا بُدَّ أَنْ يُؤْخَذَ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّلَقِّي، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَزِيدِ فِيهِ وَخُرُوجِهِ مِنْ مَضِيقِ الْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ إِلَى فَضَاءِ الْجَلَاءِ وَالتَّفْصِيلِ، فَهِمْتَ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ عَلَى عُمُومِهِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ أَدْعِيَاءَ التَّصَوُّفِ الْجَاهِلِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ أَثَرُهُ وَلَا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الْأَخِيرِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى جَمِيعًا، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ مَرْحَلَتَانِ بَعِيدَتَانِ: الْعِلْمُ الَّذِي يُؤْخَذُ بِالتَّلَقِّي وَالتَّقْوَى بِالْعَمَلِ بِهِ.
[١٤] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو " فَرُهُنٌ " كَسُقُفٍ - بِضَمَّتَيْنِ - وَالْبَاقُونَ " فَرِهَانٌ " كَحِبَالٍ وَكِلَاهُمَا جَمْعُ رَهْنٍ بِمَعْنَى مَرْهُونٍ. وَلَيْسَ تَعْلِيقُ مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الرَّهْنِ بِالسَّفَرِ وَعَدَمِ وُجُودِ كَاتِبٍ يَكْتُبُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِاشْتِرَاطِهِمَا مَعًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بَيَانُ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ لِعُذْرٍ، وَكَوْنِ الرَّهْنِ يَقُومُ مَقَامَ الْكِتَابَةِ فِي الِاسْتِيثَاقِ عِنْدَ تَيَسُّرِهَا كَمَا يَكُونُ فِي حَالِ السَّفَرِ، وَإِلَّا فَقَدَ رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِرْعَهُ فِي الْمَدِينَةِ لِيَهُودِيٍّ. وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَقَدْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَأَقُولُ: إِنَّ فِي جَعْلِ عَدَمِ وُجْدَانِ الْكَاتِبِ مُقَيَّدًا بِحَالِ السَّفَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ مَوَاطِنِ الْإِقَامَةِ أَنْ تَكُونَ خُلُوًّا مِنَ الْكُتَّابِ، وَالْكِتَابَةُ مَفْرُوضَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالْإِيمَانُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ، وَنَاهِيكَ بِالْفَرِيضَةِ إِذَا أُكِّدَتْ كَالْكِتَابَةِ حِينَئِذٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتُوهَا، بَلْ لَا يُفْرَضُ أَنْ يُخَالِفُوهَا وَأَلَّا يُوجَدَ الْكُتَّابُ عِنْدَهُمْ إِلَّا حَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ كَمَا يَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنَ الْعِبَارَةِ بِالْإِشَارَةِ وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ.
[١٥] فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ قَيَّدَ الضَّحَّاكُ جَوَازَ الِائْتِمَانِ بِالسَّفَرِ وَمَنَعَهُ فِي الْإِقَامَةِ حَيْثُ يَجِبُ الِاسْتِيثَاقُ بِالْكُتَّابِ وَالْإِشْهَادِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِهِمَا وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا مَعًا فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ فَلَا يُعْقَلُ نَسْخُ حُكْمٍ فِيهِمَا قَدْ أُكِّدَ بِأَشَدِّ الْمُؤَكِّدَاتِ بِحُكْمٍ آخَرَ ذُكِرَ مُعَلَّقًا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي الْوُقُوعَ وَهِيَ " إِنَّ " وَعِنْدِي أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ عَلَيْهِ هَاهُنَا عَامٌّ يَشْمَلُ الْوَدِيعَةَ وَغَيْرَهَا. فَالْمَعْنَى: إِنِ اتَّفَقَ أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمُ ائْتَمَنَ آخَرَ عَلَى شَيْءٍ فَعَلَى الْمُؤْتَمَنِ أَنْ
يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ، وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ فَلَا يَتَخَوَّنُ مِنَ الْأَمَانَةِ شَيْئًا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ بِهَا وَلَا شَهِيدَ ; فَإِنَّ اللهَ رَبَّهُ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُتَّقَى وَيُطَاعَ.
[١٦] وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ إِبَاءِ تَحَمُّلِهَا عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا تَأْكِيدٌ كَتَأْكِيدِ أَمْرِ الْكَاتِبِ بِأَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الْإِبَاءِ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ الْكُتَّابَ وَالشُّهُودَ بِأَنْ يُعِينُوا النَّاسَ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي ذَلِكَ، كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ


الصفحة التالية
Icon