أَنْ يُضَارُّوهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الْجَمِيعِ، وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يُدْرِكُ الْوَقَائِعَ الَّتِي شَهِدَ بِهَا وَيَعِيهَا هُوَ الْقَلْبَ وَهُوَ لُبُّ الْإِنْسَانِ وَآلَةُ عَقْلِهِ وَشُعُورِهِ كَانَ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ ذَلِكَ فِيهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ هُوَ الْآثِمَ أَيْ هُوَ مَوْضِعُ الْإِثْمِ فِي هَذَا الْكِتْمَانِ وَحْدَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مَصْدَرُ كُلِّ إِثْمٍ، وَهَذَا يَدْفَعُ مَا يَزْعُمُهُ الْجَاهِلُونَ مِنْ أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَمَلِ الْجَوَارِحِ وَحَرَكَاتِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ. وَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [١٧: ٣٦] إِلَّا؛ لِأَنَّ لِلْفُؤَادِ أَيِ الْقَلْبُ، أَوِ النَّفْسُ أَعْمَالًا خَاصَّةً بِهِ وَأَعْمَالًا يَزْعَجُ الْجَوَارِحُ إِلَيْهَا، فَأُضِيفَ إِلَيْهِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ وَأُسْنِدَ الْبَاقِي إِلَى مَظْهَرِهِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِي نُصُوصٍ أُخْرَى. وَمِنْ آثَامِ الْقَلْبِ سُوءُ الْقَصْدِ وَفَسَادُ النِّيَّةِ وَهِيَ شَرُّ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤَاخَذُ عَلَى تَرْكِ الْمَعْرُوفِ كَمَا يُؤَاخَذُ عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلٌ لِلنَّفْسِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَتْمِ وَالْكِتْمَانِ فِي مِثْلِ الشَّهَادَةِ، وَبِالْكَفِّ فِي غَيْرِهَا، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ فَكُلُّ ذَلِكَ يُعَدُّ فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلًا وَعَمَلًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَفِي هَذَا مِنَ الْوَعِيدِ مَا مَرَّ بَيَانُ مِثْلِهِ.
هَذَا وَإِنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْآيَتَيْنِ - عَلَى كَوْنِهَا أَظْهَرَ مِنَ الشَّمْسِ مَعْنًى وَعِلَّةً وَحِكْمَةً - قَدْ وَقَعَ فِيهِمَا خِلَافٌ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ، وَقَدْ بَسَطَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ كِتَابَةِ الدَّيْنِ، وَلَمْ يَكَدْ يَزِيدُ عَلَى مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ الْخِلَافِ شَيْئًا، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا اخْتُلِفَ وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهِ عَلَى النَّسَقِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الدَّرْسِ مَعَ بَيَانِ رَأْيِهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ لِلنَّدْبِ، وَاسْتَدَلُّوا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ فَإِنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ.
وَالثَّانِي: كَوْنُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْتَزِمُوا الْكِتَابَةَ وَالِاسْتِشْهَادَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ، بَلْ كَانُوا يَأْتُونَهُ تَارَةً وَيَتْرُكُونَهُ تَارَةً، وَلَوْ فَهِمُوا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَالْتَزَمُوهُ. أَقُولُ: وَجَعَلَ الرَّازِيُّ هَذَا التَّرْكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ إِجْمَاعًا وَمَا هُوَ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ حَرَجًا وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ.
وَذَهَبَ أَقْوَامٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَتَابَعَتِ الْأَوَامِرُ فِي الْآيَةِ وَتَأَكَّدَتْ حَتَّى فِي حَالِ السَّفَهِ وَالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، فَقَدْ أُمِرَ وَلِيُّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُمْلِيَ عَنْهُ لِلْكَاتِبِ وَلَمْ يُعْفِهِمْ مِنَ الْكِتَابَةِ. وَمِثْلُ هَذَا التَّأْكِيدِ لَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْلِيلُ بِكَوْنِ ذَلِكَ أَقْسَطَ


الصفحة التالية
Icon