عِنْدَ اللهِ إِلَخْ. قَالُوا أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِلَخْ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ كَالْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِيهَا كَاتِبٌ وَلَا شُهُودٌ. فَإِذَا احْتَاجَ امْرُؤٌ إِلَى الِاقْتِرَاضِ مِنْ أَخِيهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ قَضَاءَ حَاجَتِهِ وَسَدَّ خَلَّتِهِ إِذَا هُوَ ائْتَمَنَهُ.
أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَمَانَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي عُمُومِهَا مَا ذُكِرَ مِنَ الِائْتِمَانِ عَلَى الثَّمَنِ عِنْدَ فَقْدِ الْكَاتِبِ فَلَا يُجْعَلُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ - وَهُوَ الْكِتَابَةُ - فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الرُّخْصَةَ فِي إِقَامَةِ الرَّهْنِ مَقَامَ الْكِتَابَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْكَاتِبِ: لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ إِلَخْ نَاسِخًا قَوْلَهُ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَخْ. لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [٤: ٤٣] نَاسِخًا لِلْوُضُوءِ بِالْمَاءِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ: إِلَخْ قَالُوا: وَأَمَّا دَعْوَى تَعَامُلِ أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ كِتَابَةٍ وَلَا إِشْهَادٍ فَهِيَ عَلَى إِطْلَاقِهَا بَاطِلَةٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِمُعَامَلَاتِهِمْ، وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ شَيْءٌ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا اغْتَرَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ
وُجُوبِ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ بِمُعَامَلَاتِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ عَامًّا وَلَمْ يَرْوُوا عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ شَيْئًا صَحِيحًا وَاقِعًا بِالْفِعْلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِي ذَلِكَ ضِيقًا وَحَرَجًا فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ هُوَ عَيْنُ السُّهُولَةِ وَالسَّعَةِ وَالْيُسْرِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ التَّعَامُلَ الَّذِي لَا يُكْتَبُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ عَمْدٍ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَدَايِنَيْنِ ضَعِيفُ الْأَمَانَةِ فَيَدَّعِي بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ خِلَافَ الْوَاقِعِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ خَطَأٍ وَنِسْيَانٍ، فَإِذَا ارْتَابَ الْمُتَعَامِلَانِ وَاخْتَلَفَا وَلَا شَيْءَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي إِزَالَةِ الرِّيبَةِ وَرَفْعِ الْخِلَافِ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ شُهُودٍ أَسَاءَ كُلٌّ مِنْهُمَا الظَّنَّ بِالْآخَرِ، وَلَمْ يَسْهُلْ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ عَنِ اعْتِقَادِهِ إِلَى قَوْلِ خَصْمِهِ فَلَجَّ فِي خِصَامِهِ وَعَدَائِهِ، وَكَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شُرُورِ الْمُنَازَعَاتِ مَا يُرْهِقُهُمَا عُسْرًا وَيَرْمِيهِمَا بِأَشَدِّ الْحَرَجِ، وَرُبَّمَا ارْتَكَبَا فِي ذَلِكَ مَحَارِمَ كَثِيرَةً.
هَكَذَا أَوْضَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَأَيَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ.
وَمِمَّا قَالَ فِي رَدِّ قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا حَرَجًا وَهُوَ مِمَّا لَا يَقَعُ إِلَّا قَلِيلًا لِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا يَكُونُ الْوُضُوءُ حَرَجًا وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ كُلَّ يَوْمٍ يُصَلِّي فِيهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا كَلُّ مَا يَتَكَرَّرُ يَكُونُ حَرَجًا ; يَعْنِي أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ كَمَا سَيَأْتِي عَنْهُ. وَأَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الْمَنْفِيَّيْنِ بِالنَّصِّ أَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ وَلَا كُلْفَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْهَا لِلْإِعْنَاتِ وَتَجْشِيمِ الْمَشَاقِّ وَالْإِيقَاعِ فِي الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ حُكْمٍ مِنْهَا فَائِدَةٌ أَوْ فَوَائِدُ تَرْفَعُ الْحَرَجَ وَالْعُسْرَ وَيَصْلُحُ بِهَا أَمْرُ


الصفحة التالية
Icon