النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَهِيَ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَرَفَ النَّاسُ فَوَائِدَهَا بِالضَّرُورَةِ أَوِ الِاخْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَشَقَّةٌ مَا طَلَبًا لِفَوَائِدِهَا الَّتِي هِيَ أَرْجَحُ وَأَجْدَرُ بِالْإِيثَارِ، ثُمَّ إِنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ جَعْلُ الْمُسْلِمِينَ أُمَّةَ كِتَابٍ وَنِظَامٍ، وَالْإِسْلَامُ بَدَأَ بِالْعَرَبِ وَهِيَ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، وَقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهَا بِالرَّسُولِ الَّذِي عَلَّمَهَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، فَفَرْضُ كِتَابَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِمْ هُوَ مِنْ وَسَائِلِ إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْأُمِّيَّةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَبُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِرَ الْمُؤَكِّدَةَ لِلنَّدْبِ، فَهَلْ يَنْبَغِي أَنْ
يَتْرُكَ الْمُسْلِمُونَ جُمْلَةَ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ كِتَابُ اللهِ بِحُجَّةِ أَنَّ فِيهِ حَرَجًا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُجَجِ، حَتَّى صَارَ مَنْ تَرَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعْنَى بِكِتَابَةِ دُيُونِهِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِضَعْفِ ثِقَتِهِ بِمَدِينِهِ، لَا عَمَلًا بِهِدَايَةِ دِينِهِ، أَلَا إِنَّ الْحَرَجَ فِي هَذَا كَالْحَرَجِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُشْرِكًا بِنَوْعٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَرِّطَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْبَلَدَ قَدْ يَكْفِيهِ كَاتِبٌ وَاحِدٌ لِلدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَقَدْ رَخَّصَ اللهُ لَنَا فِي تَرْكِ كِتَابَةِ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَأُسْلُوبَهَا وَطَرِيقَةَ تَأْدِيَتِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ.
(قَالَ) وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ هَذَا بِالْعَمَلِ بِالْخَطِّ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنْ كَانَ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ الْعَمَلَ بِالْخَطِّ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ خِلَافَ مَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ لَكَانَ الْمَصَابُ عَظِيمًا، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالْخَطِّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِيهِ التَّزْوِيرُ، وَزَعَمُوا أَنَّ فَائِدَةَ الْكِتَابَةِ التَّذْكَارُ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ لِأَجْلِ التَّذْكَارِ، وَمَنْشَأُ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمَرْأَتَيْنِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَالصَّوَابُ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ قَدْ شُرِعَ لِلِاسْتِيثَاقِ بَيْنَ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ لَا لِأَجْلِ التَّذَكُّرِ بَعْدَ النِّسْيَانِ، وَالْكِتَابَةُ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ عَوْنٌ لِلشَّهَادَةِ فَهِيَ آلَةُ الِاسْتِيثَاقِ لِلْمُتَعَامِلِينَ، فَالدَّائِنُ يَسْتَوْثِقُ بِمَالِهِ فَيَأْمَنُ مِنْ إِنْكَارِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالْمَدِينُ يَسْتَوْثِقُ بِمَا عَلَيْهِ فَلَا يَخَافُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ، وَالشَّاهِدُ يَسْتَوْثِقُ بِشَهَادَتِهِ فَإِذَا شَكَّ أَوْ نَسِيَ رَجِعَ إِلَى الْكِتَابِ فَتَذَكَّرَ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا وَنَفْعُ الْكِتَابَةِ الْأَكْبَرُ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الشَّهِيدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَضِيعَ الْحُقُوقُ وَلَا حَافِظَ لَهَا حِينَئِذٍ إِلَّا الْكِتَابَةُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فَيُعْمَلُ بِهَا.
قَالَ: وَاحْتِجَاجُهُمْ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ، وَأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ إِلَّا مُذَكِّرَةً بِهَا بِأَنَّ الْخَطَّ يُحْتَمَلُ فِيهِ التَّزْوِيرُ مَنْقُوضٌ بِأَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ التَّزْوِيرِ فِي الشَّهَادَةِ أَشَدُّ، بَلْ حُصُولُهُ فِيهَا بِالْفِعْلِ أَكْثَرُ، حَتَّى إِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا تَكَادُ تَكُونُ
كَنِسْبَةِ الْخَمْسَةِ إِلَى


الصفحة التالية
Icon