الْأَلْفِ، ثُمَّ إِنَّ فِي الشَّهَادَةِ احْتِمَالَاتٍ أُخْرَى تُسْقِطُهَا عَنْ مَرْتَبَةِ الْكِتَابَةِ كَالنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ.
وَمِنْ مَحَاسِنَ الْأَجْوِبَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا وَقَعَ لِأَحَدِ الْقُضَاةِ فِي الْوَجْهِ الْقِبْلِيِّ (الصَّعِيدِ) إِذْ جَاءَهُ مُدَّعٍ يُطَالِبُ آخَرَ بِدَيْنٍ لَهُ كُتِبَ فِي صَكٍّ وَخُتِمَ بَخَاتَمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي:
إِنَّ هَذَا الصَّكَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ فَلَا بُدَّ مِنَ الشُّهُودِ. قَالَ الْمُدَّعِي: مَنْ قَالَ بِهَذَا؟ قَالَ الْقَاضِي: الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ الْمُدَّعِي: هَلْ عِنْدَكَ شُهُودٌ سَمِعَتْ مِنْهُمْ ذَلِكَ؟ فَبُهِتَ الْقَاضِي.
قَالَ الْأُسْتَاذُ فَالْأَشْيَاءُ الْبَدِيهِيَّةُ يُلْهَمُ حُكْمَهَا كُلُّ النَّاسِ: أَقُولُ يَعْنِي بِالنَّاسِ أَصْحَابَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَلَا غَرْوَ فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ وَلَا يُفْسِدُ الْفِطْرَةَ شَيْءٌ كَالتَّقْلِيدِ.
أَقُولُ: وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْآيَةِ شَهَادَةُ الْأَرِقَّاءِ، فَالظَّاهِرُ دُخُولُهُمْ فِي عُمُومِ رِجَالِكُمْ وَبِذَلِكَ قَالَ شُرَيْحٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ وَلِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلْمُتَعَامِلِينَ بِالْأَمْوَالِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَرْبَابِهَا، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ ضَعِيفَانِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - اشْتَرَطَ فِي الشَّاهِدَيْنِ الْعَدَالَةَ لَا الْحُرِّيَّةَ، وَالرِّقُّ لَا يُنَافِي الْعَدَالَةَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً، يَقُولُ: مَنْ يَتَدَايَنُ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِمْ كَذَا مِنَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، وَالْكُتَّابُ وَالشُّهَدَاءُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْكَاتِبِ لِوَثِيقَةِ الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: تَصِحُّ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ وَهُوَ تَحَكُّمٌ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ مَنْدُوبٌ؟ ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَعُمَرَ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا أُجِّلَ فِيهِ الثَّمَنُ.
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قَبْلُهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.


الصفحة التالية
Icon