وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُتَمِّمَةً لَهَا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ عَلِيمًا بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ أَيْ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَهُ وَهُوَ خَالِقُهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [٦٧: ١٤] وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَتَقَرَّرُ النَّهْيُ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ وَكَوْنُهُ إِثْمًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ لِدُخُولِ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ فِي عُمُومِ مَا فِي النَّفْسِ (قَالَ) وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِآيَةِ الدَّيْنِ مِنْ أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَّعَ لَنَا أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ كَالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ تَسَاهَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَأَضَعْتُمُ الْحُقُوقَ فَتَظَاهَرْتُمْ بِالْأَمَانَةِ مَعَ انْطِوَاءِ النَّفْسِ عَلَى الْخِيَانَةِ وَغَالَطْتُمُ النَّاسَ وَأَكَلْتُمْ أَمْوَالَهُمْ بِذَلِكَ أَوْ أَضَعْتُمُوهَا بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يُحَاسِبُكُمْ وَيُعَاقِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهَا أَنْتُمْ وَأَعْمَالُكُمُ النَّفْسِيَّةُ أَوِ الْبَدَنِيَّةُ أَقُولُ: وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِأَحْكَامِ السُّورَةِ كُلِّهَا.
(قَالَ) وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْأَشْيَاءُ الثَّابِتَةُ فِي أَنْفُسِكُمْ وَتَصْدُرُ عَنْهَا أَعْمَالُكُمْ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَأُلْفَةِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَرْكُ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنِ النَّهْيِ أَمْرٌ كَبِيرٌ يَحِلُّ اللهُ عُقُوبَتَهُ فِي الْأُمَّةِ بِسَبَبِهِ وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ السُّكُوتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ أُلْفَةُ الْمُنْكِرِ وَالْأُنْسُ بِهِ وَلِلْإِنْسَانِ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ فِي نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يُحَاسَبُ عَلَيْهِ. نَعَمْ إِنَّ الْخَوَاطِرَ وَالْهَوَاجِسَ قَدْ تَأْتِي بِغَيْرِ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا تَعَمُّدٌ وَلَكِنَّهُ إِذَا مَضَى مَعَهَا وَاسْتَرْسَلَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ عَمَلًا يُجَازَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَايَرَهَا مُخْتَارًا وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى مُطَارَدَتِهَا وَجِهَادِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ وَالْهَوَاجِسُ صَادِرَةً عَنْ مَلَكَةٍ
فِي النَّفْسِ تُثِيرُهَا أَوْ عَنْ شَيْءٍ لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمَلَكَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ الْحَسُودُ تَبْعَثُ مَلَكَةُ الْحَسَدِ فِي نَفْسِهِ خَوَاطِرَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمَحْسُودِ وَالسَّعْيِ فِي إِزَالَةِ نِعْمَتِهِ لِتَمَكُّنِهَا فِي نَفْسِهِ وَامْتِلَاكِهَا لِمَنَازِعِ فِكْرِهِ، وَهَذِهِ الْخَوَاطِرُ مِمَّا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا أَبْدَاهَا أَوْ أَخْفَاهَا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَهَا وَيُدَافِعَهَا فَذَلِكَ مَا يُكَلَّفُهُ.
وَمِثَالُ الثَّانِي الْمَظْلُومُ يَذْكُرُ ظَالِمَهُ فَيَشْتَغِلُ فِكْرُهُ فِي دَفْعِ ظُلْمِهِ وَالْهَرَبِ مِنْ أَذَاهُ وَرُبَّمَا اسْتَرْسَلَ مَعَ خَوَاطِرِهِ إِلَى أَنْ تَجُرَّهُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِلْإِيقَاعِ بِهِ وَمُقَابَلَةِ ظُلْمِهِ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا عَلَيْهَا، أَبْدَاهَا أَوْ أَخْفَاهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [٥: ٧٨ و٧٩] وَذَلِكَ أَنَّ فَظَاعَةَ الْمُنْكَرِ زَالَتْ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِالْأُنْسِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الَّتِي أَمَرَنَا الشَّرْعُ بِمُجَاهَدَتِهَا وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يَمُرُّ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ كَمَا قِيلَ، بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - شَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ وَشَكَوْا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَسْوَسَةَ ; فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَلَفْظُ الْآيَةِ يَدْفَعُ هَذَا؛ لِأَنَّهَا نَصٌّ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهَا كَالْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ وَالْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِأَثَرِهَا فِيهَا إِذَا انْتَفَتِ الْمَوَانِعُ وَتُرِكَتِ الْمُجَاهَدَةُ. وَكَذَلِكَ يَدْفَعُهُ مَا كَانَ


الصفحة التالية
Icon