عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ الْفَهْمِ وَيَتَأَدَّبُونَ بِهِ وَيُقِيمُونَهُ كَمَا يَجِبُ، وَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ مَعَ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُفَصَّلًا وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ، لَا شَكَّ أَنَّ مَا يُجَازَى عَلَيْهِ مِمَّا فِي النَّفْسِ يَعُمُّ الْمَلَكَاتِ الْفَاضِلَةَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرِيفَةَ، وَإِنَّمَا مُثِّلَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَلِهَذَا السِّيَاقِ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَرَدَّ ذَلِكَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصَّصٍ أَيْضًا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِمَا بَعْدَهَا. أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ اشْتَدَّ ذَلِكَ
عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا نُطِيقُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللهُ فِي أَثَرِهَا آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [٢: ٢٨٥] الْآيَةَ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ - تَعَالَى - فَأَنْزَلَ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢: ٢٨٦] إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحْسَبُهُ ابْنَ عُمَرَ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ. قَالَ نَسَخَهَا مَا بَعْدَهَا، وَاحْتَجُّوا لِلنَّسْخِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ.
وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّمَا قُصَارَاهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمَ أَنَّهَا نُسِخَتْ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ وَالْقَوْلُ بِالنُّسَخِ مَمْنُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ خَبَرٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ مِمَّا دَلَّ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى الْجَوَارِحِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ، وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَالْقَوْلُ بِنَسْخِهَا إِبْطَالٌ لِلشَّرِيعَةِ وَنَسْخٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ، أَوْ إِثْبَاتٌ لِكَوْنِهِ دِينًا جُثْمَانِيًّا مَادِّيًّا لَا حَظَّ لِلْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [٢: ٢٢٥] وَقَالَ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [١٧: ٣٦]


الصفحة التالية
Icon