وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [٢٤: ١٩] وَالْحُبُّ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الثَّابِتَةِ فِي النَّفْسِ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مَعْنَاهُ مَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَفْرُ وَالْأَخْلَاقُ الرَّاسِخَةُ وَالصِّفَاتُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِي الْجَوْرِ وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَقَصْدِ السُّوءِ
أَوْ سُوءِ الْقَصْدِ وَفَسَادِ النِّيَّةِ وَخُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ وَالصِّفَاتُ هِيَ الْأَصْلُ فِي الشَّقَاوَةِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَلَوْلَا أَنَّ لِلْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ آثَارًا فِي النَّفْسِ تُزَكِّيهَا أَوْ تُدَسِّيهَا، لَمَا آخَذَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ أَحَدًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يُعَاقِبُ النَّاسَ حُبًّا فِي الِانْتِقَامِ وَلَا يَظْلِمُ نَفْسًا شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ سُنَّتَهُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يَرْتَقِيَ أَوْ يَتَسَفَّلَ نَفْسًا وَعَقْلًا بِالْعَمَلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ مَجْزِيًّا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَثَرَهُ فِي النَّفْسِ هُوَ مُتَعَلَّقُ الْجَزَاءِ.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْخَوَاطِرَ السَّانِحَةَ وَالْوَسَاوِسَ الْعَارِضَةَ وَحَدِيثَ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْقَصْدِ الثَّابِتِ وَالْعَزْمِ الرَّاسِخِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَا مُسْتَقِرٌّ وَقَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِكُمْ يُفِيدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِقْرَارَ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا وَجْهًا لِإِبْطَالِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا ذُكِرَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا نَاسِخًا لَهُ ; وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ التَّجَاوُزِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ لَا يُنَافِي الْآيَةَ وَلَا يَصِحُّ دِعَامَةً لِلْقَوْلِ بِنَسْخِهَا.
(رَابِعُهَا) أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ يُنَافِي الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْبَالِغَةَ وَالرَّحْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ السَّابِغَةَ، فَهُوَ لَمْ يَقَعْ فَيُقَالُ: إِنَّ الْآيَةَ مِنْهُ، وَنُسِخَتْ بِمَا بَعْدَهُ.
(خَامِسُهَا) الْمَعْقُولُ فِي النَّسْخِ أَنْ يُشْرَعَ حُكْمٌ يُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِينَ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَنٌ أَوْ تَطْرَأُ حَالٌ يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْمَصْلَحَةِ وَكَوْنُ مَا فِي النَّفْسِ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرْتَ، فَلِمَاذَا قَالَ الصَّحَابَةُ فِيهَا مَا قَالُوا؟ أَقُولُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرُهُمْ رِجَالٌ قَدْ تَرَبَّوْا فِي حِجْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَانْطَبَعَتْ فِي نُفُوسِهِمْ قَبْلَهُ أَخْلَاقُهَا، وَأَثَّرَتْ فِي قُلُوبِهِمْ عَادَتُهَا فَكَانُوا يَتَزَكُّونَ مِنْهَا، وَيَتَطَهَّرُونَ مَنْ لَوَثِهَا تَدْرِيجًا بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَبِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، فِيمَا يَفْعَلُ وَيَقُولُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَافُوا أَنْ يُؤَاخَذُوا عَلَى مَا كَانَ لَا يَزَالُ بَاقِيًا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَثَرِ التَّرْبِيَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَنَاهِيكَ بِمَا
كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَاعْتِقَادِ النَّقْصِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى بَعْدَ كَمَالِ التَّزْكِيَةِ وَتَمَامِ الطَّهَارَةِ حَتَّى كَانَ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ: " هَلْ يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ ".


الصفحة التالية
Icon