سِوَاهُ، يَرْجُوهُ وَيَخْشَاهُ لِذَاتِهِ، وَبِمُنَاسَبَةٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ فِي عِبَادِهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا أَقُولُ: أَيْ فَقَدْ طَلَبَ أَوْ تَحَرَّى بِاعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكًا بِأَوْثَقِ عُرَى النَّجَاةِ، وَأَثْبَتِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ، أَوْ فَقَدِ اعْتَصَمَ بِأَوْثَقِ الْعُرَى، وَبَالَغَ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الِاسْتِمْسَاكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ الْقَوِيمِ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، كَمَا أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِعُرْوَةٍ هِيَ أَوْثَقُ الْعُرَى وَأَحْكَمُهَا فَمَثَلًا لَا يَقَعُ وَلَا يَتَفَلَّتُ، وَقَدْ حُذِفَ لَفْظُ الَّتِي وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَقُولُ: أَفَادَ كَلَامُهُ أَنَّ الْعُرْوَةَ فِي الْآيَةِ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ عُرْوَةِ الثَّوْبِ وَيُنَاسِبُهُ الِانْفِصَامُ، وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُرَادَ بِهَا عُرْوَةُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَهِيَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ مَدَدُهَا بِالْقَحْطِ وَالْجَدَبِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمُبَالِغَ بِالتَّمَسُّكِ بِهَذَا الْحَقِّ وَالرُّشْدِ كَمَنْ يَأْوِي بِنِعَمِهِ إِلَى ذَلِكَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ مَدَدُهُ، وَلَا يَفْنَى عَلَفُهُ، فَإِذَا نَزَلَ الْجَدَبُ وَالْقَحْطُ بِمَنْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، كَانَ هُوَ مُعْتَصِمًا بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، أَيْ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْعُرْوَةِ يَجِدُ فِيهَا السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ دُونَ غَيْرِهِ. وَمِمَّا خَطَرَ لِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ الْآنَ: أَنَّ عُرْوَةَ الْإِيمَانِ إِذَا كَانَتْ لَا تَنْقَطِعُ بِالْمُسْتَمْسِكِ بِهَا فَهُوَ لَا يَخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَكَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي تَرَكَهَا، فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْآثَارِ فِي صِفَاتِ صَاحِبِهِ وَأَعْمَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْوُجُودِ - لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَالْخَيْرُ الْمُوَافِقُ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ شِدَّةَ التَّمَسُّكِ بِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالسَّبَبُ الْأَقْوَى لِلثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ وَالسَّعَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلِلْبَقَاءِ الْأَبَدِيِّ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى. وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِمْسَاكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِجَمِيعِ مَنَاشِئِ الطُّغْيَانِ، وَيَعْتَصِمْ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ مِنْ أَصُولِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ لَا يُعَدُّ مُسْتَمْسِكًا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِنِ انْتَمَى فِي الظَّاهِرِ إِلَى أَهْلِهَا، أَوْ إِلَى مَا بِهَا إِلْمَامُ الْمُمْسِكِ بِهَا، فَالْعِبْرَةُ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاسْتِمْسَاكِ الْحَقِيقِيِّ، لَا بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ الضَّعِيفِ الصُّورِيِّ، وَالِانْتِمَاءِ الْقَوْلِيِّ وَالتَّقْلِيدِيِّ، وَاللهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ مُدَّعِي الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانِ بِاللهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلِيمٌ بِمَا تُكِنُّهُ قُلُوبُهُمْ مِمَّا يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ. فَمَنْ شَهِدَ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنَ الْكَوْنِيَّةَ مُسَخَّرَةً بِحِكْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - مُسَيَّرَةً بِقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِسِوَاهَا إِلَّا لِوَاضِعِهَا وَالْفَاعِلِ بِهَا - فَهُوَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا، وَلَهُ جَزَاءُ الْمُسْتَمْسِكِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، نَاحِلًا مَا جَهِلَ سِرَّهُ مِنْ عَجَائِبِ الْخَلْقِ قُوَّةً غَيْرَ طَبِيعِيَّةٍ، يَتَقَرَّبُ إِلَيْهَا أَوْ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ زُلْفَى، فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَصِمٍ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَلَهُ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.


الصفحة التالية
Icon