(الْمُفْرَدَاتُ) فَصُرْهُنَّ - بِضَمِّ الصَّادِ -: أَمِلْهُنَّ، مِنَ الْإِمَالَةِ، وَكَذَلِكَ فَصُرْهُنَّ - بِكَسْرِ الصَّادِ - يُقَالُ: صَارَهُ إِلَيْهِ يَصُورُهُ وَيَصِيرُهُ بِمَعْنَى أَمَالَهُ، وَيُقَالُ: صَارَ الرَّجُلُ إِذَا صَوَّتَ، وَمِنْهُ
عُصْفُورٌ صَوَّارٌ، وَصَارَهُ يَصِيرُهُ: قَطَّعَهُ وَفَصَّلَهُ صُوَرًا صُوَرًا، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَعَ كَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَمَعْنَاهُ التَّصْوِيتُ، أَيْ صَوَّتَ وَصَاحَ بِهِنَّ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ.
(التَّفْسِيرُ) هَذَا مِثَالٌ ثَالِثٌ لِوِلَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْبَعْثِ، وَأَمَّا الْمِثَالُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ مُحَاجَّةُ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ لِإِبْرَاهِيمَ - فَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وُجُودِ اللهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ مِثَالٍ وَاحِدٍ فِي إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمِثَالَيْنِ فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ أَنَّ مُنْكِرِي الْبَعْثِ أَكْثَرُ مِنْ مُنْكِرِي الْأُلُوهِيَّةِ! ! قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ الْجُمْهُورُ: التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ صَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ [٧: ٧٤] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَرَأَيْتَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ إِلَخْ. وَقَالُوا: إِنَّهُ صَرَّحَ هُنَا بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْمِثَالِ الَّذِي قَبْلَهُ بِذِكْرِ الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ ; لِأَنَّ فِي سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ فِي سُؤَالِ ذَاكَ، فَصُورَةُ ذَلِكَ صُورَةُ الْإِنْكَارِ وَصُورَةُ هَذَا صُورَةُ الْإِقْرَارِ مَعَ طَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْعِلْمِ. رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى بَدَأَ السُّؤَالَ بِكَلِمَةِ رَبِّ الَّتِي تُفِيدُ عِنَايَتَهُ - تَعَالَى - بِعَبِيدِهِ وَتَرْبِيَتَهُ لِعُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِالْمَعَارِفِ لِتَكُونَ ثَنَاءً وَاسْتِعْطَافًا أَمَامَ الدُّعَاءِ، أَيْ أَرِنِي بِعَيْنِي كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِكَ لِلْمَوْتَى، وَقَدْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهَا إِلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فِي فَهْمِ الْكَلَامِ قَالَ - تَعَالَى - وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا سُئِلَ عَنْهُ مِنَ الْمَسْئُولِ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ حُذِفَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْهَمْزَةُ لِدَلَالَةِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَقَدَّرُوا لَهُ أَلَمْ تَعْلَمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُقَدَّرَ: أَلَمْ يُوحَ إِلَيْكَ وَلَمْ تُؤْمِنْ بِذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى أَيْ قَدْ أَوْحَيْتَ إِلَيَّ فَآمَنْتُ وَصَدَّقْتُ بِالْخَبَرِ، وَلَكِنْ تَاقَتْ نَفْسِي لِلْخَبَرِ. وَالْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّةِ هَذَا السِّرِّ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِالْعِيَانِ بَعْدَ خَبَرِ الْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - لِإِبْرَاهِيمَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ - إِرْشَادًا إِلَى مَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنَّ يَقِفَ عِنْدَهُ وَيَكْتَفِيَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ:
إِنَّ الْإِيمَانَ بِهَذَا السِّرِّ الْإِلَهِيِّ وَالتَّسْلِيمِ فِيهِ لِخَبَرِ الْوَحْيِ وَدَلَائِلِهِ وَأَمْثَالِهِ هُوَ مُنْتَهَى مَا يُطْلَبُ مِنَ الْبَشَرِ، فَلَوْ كَانَ وَرَاءَ الْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ مَطْلَعٌ لِنَاظِرٍ لَبَيَّنَهُ اللهُ لَكَ، وَفِي هَذَا الْإِرْشَادِ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً وَمَنْعٌ لَهُمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ وَإِشْغَالِ نُفُوسِهِمْ بِمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ - تَعَالَى ـ بِهِ فَلَا يَلِيقُ بِهِمُ الْبَحْثُ عَنْهُ.


الصفحة التالية
Icon