وَأَنَّ أَضْمَنَ شَيْءٍ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ وَأَقْوَى مُعَزِّزٍ لَهَا هُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي عَيْنِ الْآخَرِ وَقَلْبِهِ فِي مَقَامِ الْمُعِينِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعِنْهُ بِالْفِعْلِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُقَرِّرَةٌ لِقَاعِدَةِ: " دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَكُونُ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إِلَى الشَّرِّ، وَمُرْشِدَةٌ إِلَى وُجُوبِ الْعِنَايَةِ بِجَعْلِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَالِيًا مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي
تُفْسِدُهُ وَتَذْهَبُ بِفَائِدَتِهِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ عَجَزَ عَنْ إِحْسَانِ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَجَعْلِهِ خَالِصًا نَقِيًّا أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِحْسَانِ عَمَلٍ آخَرَ يُؤَدِّي إِلَى غَايَتِهِ حَتَّى لَا يُحْرَمَ مِنْ فَائِدَتِهِ بِالْمَرَّةِ، كَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَا يَمُنَّ وَلَا يُؤْذِي فَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ أَوْ جَبَرَ الْفَقِيرَ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ لَا يُغْنِي بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَكَيْفَ يُغْنِي تَرْكُ الشِّرْكِ وَاتِّقَاءُ الْمَفَاسِدِ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ.
وَاللهُ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ وَبِمَا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ صَدَقَةِ عِبَادِهِ فَلَا يَأْمُرُ الْأَغْنِيَاءَ بِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِهِ لِحَاجَةٍ بِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَهُمْ وَيُزَكِّيَهُمْ وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَيُصْلِحَ شُئُونَهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لِيَكُونُوا أَعِزَّاءَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ، وَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُنَافِيَانِ ذَلِكَ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ قَبُولِ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَاتِ. حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَمُنُّ وَيُؤْذِي. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُطْلَقُ الْحِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ هَذَا اللَّازِمُ مِنْ لَوَازِمِهِ ; أَيِ الْإِمْهَالُ وَعَدَمُ الْمُعَاجَلَةِ بِالْمُؤَاخَذَةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ لَازِمٌ آخَرُ هَذَا الْإِغْضَاءُ وَالْعَفْوُ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ لَكَانَ تَحْرِيضًا عَلَى الْأَذَى وَلِكُلِّ مَقَالٍ مَقَامٌ يُعَيِّنُهُ، فَالْأَوَّلُ يُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ الْعَجُولِ الطَّائِشِ، وَالثَّانِي فِي مُقَابِلِ الْغَضُوبِ الْمُنْتَقِمِ. وَفِي الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ تَنْفِيسٌ لِكُرَبِ الْفُقَرَاءِ وَتَعْزِيَةٌ لَهُمْ وَتَعْلِيقٌ لِقُلُوبِهِمْ بِحَبَلِ الرَّجَاءِ بِاللهِ الْغَنِيِّ الْمُغْنِي، وَتَهْدِيدٌ لِلْأَغْنِيَاءِ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِحِلْمِ اللهِ وَإِمْهَالِهِ إِيَّاهُمْ وَعَدَمِ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَسْلُبَهَا مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مُولَعَةٌ بِذِكْرِ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْإِحْسَانِ لِلتَّمَدُّحِ وَالْفَخْرِ وَكَانَ ذَلِكَ مَطِيَّةَ الرِّيَاءِ، وَطَرِيقَ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ، لَا سِيَّمَا إِذَا آنَسَ الْمُصَّدِّقُ تَقْصِيرًا فِي شُكْرِهِ عَلَى صَدَقَتِهِ أَوِ احْتِقَارًا لَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَمْلِكُ حِينَئِذٍ نَفْسَهُ وَيَكُفُّهَا عَنِ الْمَنِّ أَوِ الْأَذَى كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كَانَ مِنَ الْهُدَى الْقَوِيمِ وَمُقْتَضَى الْبَلَاغَةِ أَنْ يُؤْتَى فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ ذَلِكَ، وَالْحَمْلِ عَلَى تَرْكِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَقُولُ: بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -
فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَنَّ تَرْكَ الْمَنِّ وَالْأَذَى شَرْطٌ لِحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا إِلَى قَوْلٍ وَعَمَلٍ آخَرَ يُكْرِمُ بِهِ الْفَقِيرَ، أَوْ تُؤَيَّدُ بِهِ


الصفحة التالية
Icon