الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي الْغَايَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا. ثُمَّ أَقْبَلَ - تَعَالَى - عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَهَاهُمْ نَهْيًا صَرِيحًا أَنْ يُبْطِلُوا صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ هَاتَيْنِ الرَّذِيلَتَيْنِ مَا يَقْتَضِيهِ وَلُوعُ النَّاسِ بِهِمَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْآيَةِ عَلَى إِحْبَاطِ الْكَبَائِرِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُعْمَلْ، وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تُبْطِلُوا ثَوَابَ صَدَقَاتِكُمْ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِحْبَاطِ الْمَنِّ وَالْأَذَى لِلْفَائِدَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَهِيَ تَخْفِيفُ بُؤْسِ الْمُحْتَاجِينَ وَكَشْفُ أَذَى الْفَقْرِ عَنْهُمْ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَتَنْشِيطُ الْقَائِمِينَ بِخِدْمَةِ الْأُمَّةِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، فَإِذَا أُتْبِعَتِ الصَّدَقَةُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَانَ ذَلِكَ هَدْمًا لِمَا بَنَتْهُ وَإِبْطَالًا لِمَا عَمِلَتْهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَقَدْ حَبِطَ وَبَطُلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَكَيْفَ إِذَا أُتْبِعَ بِضِدِّ الْغَايَةِ وَنَقِيضِهَا؟ كَذَلِكَ تَكُونُ صَلَاةُ الْمُرَائِي بَاطِلَةً ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا لَمْ يَحْصُلْ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِشْعَارُ سُلْطَانِهِ وَالْإِذْعَانُ لِعَظَمَتِهِ وَالشُّكْرُ لِإِحْسَانِهِ، وَقَلْبُ الْمُرَائِي إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يُرَائِيهِ، هَذَا هُوَ مَعْنَى إِبْطَالِ الْمَنِّ وَالْأَذَى لِلصَّدَقَةِ، وَالَّذِي يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ أَنَّ ارْتِكَابَ أَيِّ كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ السَّابِقَةِ وَيُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا هُدَى اللهِ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا فِطْرَةَ الْبَشَرِ الَّتِي جَاءَ الدِّينُ لِتَأْدِيبِهَا، وَقَدْ رَأَيْتَ كَلَامَ مَنْ أَيَّدَ مَذْهَبَهُ بِهَدْمِ مَذْهَبِهِمْ، هَكَذَا يَتَجَاذَبُ الْقُرْآنَ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ كَلٌّ يَجْذِبُهُ إِلَى مَذْهَبِهِ الَّذِي رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، فَتَرَاهُمْ عِنْدَمَا يُشَاغِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَتَعَلَّقُونَ بِالْكَلِمَةِ الْمُفْرَدَةِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَا قَالُوا وَيَجْعَلُونَهَا حُجَّةً لِلْمَذْهَبِ وَيُؤَوِّلُونَ مَا عَدَاهَا وَلَوْ بِالتَّمَحُّلِ، وَأَهْلُ الْخِلَافِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي بَيَانِ مَعَانِيهِ.
ثُمَّ شَبَّهَ - تَعَالَى - أَصْحَابَ الْمَنِّ وَالْأَذَى بِالْمُرَائِي أَوْ إِبْطَالَ عَمَلِهِمْ لِلصَّدَقَةِ بِإِبْطَالِ رِيَائِهِ لَهَا فَقَالَ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ أَيْ لِأَجْلِ رِيَائِهِمْ أَوْ مُرَائِيًا لَهُمْ ; أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَرَوْهُ فَيَحْمَدُوهُ لَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - بِتَحَرِّي مَا حَثَّ عَلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ
عِبَادِهِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَعُوزِينَ، وَتَرْقِيَةِ شَأْنِ الْمِلَّةِ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ إِنَّمَا يُحَاوِلُ إِرْضَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - بِالْإِنْفَاقِ خَشْيَةَ عِقَابِهِ، وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا أَيْ إِنَّ صِفَتَهُ وَحَالَهُ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِمَا يُنْفِقُ كَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ أَصَابَهُ مَطَرٌ غَزِيرٌ عَظِيمُ الْقَطْرِ أَزَالَ عَنْهُ مَا أَصَابَهُ حَتَّى عَادَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَانِّ وَالْمُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ وَبَيْنَ الْمُرَائِي بِنَفَقَتِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَشَّ نَفْسَهُ فَأَلْبَسَهَا ثَوْبَ زُورٍ يُوهِمُ رَائِيهِ


الصفحة التالية
Icon