مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَنْ يَلْبَسُ لُبُوسَ الْعُلَمَاءِ أَوِ الْجُنْدِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُ وَيَفْتَضِحَ سِرُّهُ، فَيَكُونَ مَا تَلَبَّسَ بِهِ كَالتُّرَابِ عَلَى الصَّفْوَانِ يَذْهَبُ بِهِ الْوَابِلُ، كَذَلِكَ تَكْشِفُ الْحَوَادِثُ وَمَا يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ حَقِيقَةَ هَؤُلَاءِ وَتَفْضَحُ سَرَائِرَهُمْ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أَيْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمْ وَلَا يَجْنُونَ ثَمَرَاتِهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مِمَّا يُنَافِي غَايَةَ الصَّدَقَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَمَنْ فَعَلَهُمَا كَانَ أَبْغَضَ إِلَى النَّاسِ مِنَ الْبَخِيلِ الْمُمْسِكِ، وَالرِّيَاءُ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشُفُّ عَمَّا تَحْتَهُ فَإِذَا اكْتَسَيْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارٍ
فَلَا تَكَادُ تَجِدُ مَنَّانًا وَلَا مُرَائِيًا غَيْرَ مَذْمُومٍ مَمْقُوتٍ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَأَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى كَالرِّيَاءِ فِي مُنَافَاةِ الْإِخْلَاصِ، وَلَا ثَوَابَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لِلْمُخْلِصِينَ فِي أَعْمَالِهِمِ الَّذِينَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَا سُنَنَ اللهِ - تَعَالَى - فِي تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِ النَّاسِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أَيْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يَهْدِي قَلْبَ صَاحِبِهِ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَوَضْعِ النَّفَقَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَالِاحْتِرَاسِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمَا يَذْهَبُ بِفَائِدَتِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، فَكَانَ الْكَافِرُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ مَحْرُومًا مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الَّتِي تَجْمَعُ لِصَاحِبِهَا بَيْنَ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ وَسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
بَعْدَ هَذَا ضَرَبَ اللهُ الْمَثَلَ لِلْمُخْلِصِينَ فِي الْإِنْفَاقِ لِأَجْلِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْمُرَائِينَ وَالْمُؤْذِينَ، وَعَقَّبَهُ بِمَثَلٍ آخَرَ يَتَبَيَّنُ بِهِ حَالُ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ:
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ


الصفحة التالية
Icon