يَقُولُ: ذَاكَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ مَثَلُ أَهْلِ الرِّيَاءِ وَأَصْحَابِ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللهِ وَلِتَثْبِيتِ أَنْفُسِهِمْ وَتَمْكِينِهَا فِي مَنَازِلِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ حَتَّى تَكُونَ مُطَمْئِنَةً فِي بَذْلِهَا لَا يُنَازِعُهَا فِيهِ زِلْزَالُ الْبُخْلِ وَلَا اضْطِرَابُ الْحِرْصِ; لِإِيثَارِهَا حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ أَمْرِ اللهِ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، عَنْ هَوَى النَّفْسِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا التَّثْبِيتُ بِتَعْوِيدِ النَّفْسِ عَلَى الْبَذْلِ حَيْثُ يُفِيدُ الْبَذْلُ، حَتَّى يَصِيرَ الْجُودُ لَهَا طَبْعًا وَخُلُقًا، وَإِنَّمَا قَالَ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ لِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ يُفِيدُ بَعْضَ التَّثْبِيتِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَإِنَّمَا كَمَالُ ذَلِكَ بِبَذْلِ الرُّوحِ وَالْمَالِ جَمِيعًا فِي سَبِيلِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [٤٩: ١٥] وَقَدْ هَدَانَا تَعْلِيلُ الْإِنْفَاقِ بِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ إِلَى أَنْ نَقْصِدَ بِأَعْمَالِنَا أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: ابْتِغَاءُ رِضْوَانِهِ لِذَاتِهِ تَعَبُّدًا لَهُ.
وَثَانِيهِمَا: تَزْكِيَةُ أَنْفُسِنَا وَتَطْهِيرُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعُوقُهَا عَنِ الْكَمَالِ، كَالْبُخْلِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي حُبِّ الْمَالِ، عَلَى أَنَّ هَذَا وَسِيلَةٌ لِذَاكَ وَفَائِدَةُ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَائِدَةٌ عَلَيْنَا وَاللهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. فَإِذَا صَدَقْنَا فِي الْقَصْدَيْنِ صَدَقَ عَلَيْنَا هَذَا الْمَثَلُ وَكُنَّا فِي نَفْعِ إِنْفَاقِنَا كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَيْ بُسْتَانٍ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ - قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ بِفَتْحِ رَاءِ " رَبْوَةٍ " وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا - قَالُوا: وَمَا كَانَ كَذَلِكَ مِنَ الْجَنَّاتِ كَانَ عَمَلُ الشَّمْسِ وَالْهَوَاءِ فِيهِ أَكْمَلَ، فَيَكُونُ أَحْسَنَ مَنْظَرًا وَأَزْكَى ثَمَرًا، أَمَّا الْأَمَاكِنُ الْمُنْخَفِضَةُ الَّتِي لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا قَلِيلًا فَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّبْوَةِ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْجَيِّدَةُ التُّرْبَةُ بِحَيْثُ تَرْبُو بِنُزُولِ الْمَطَرِ عَلَيْهَا وَتَنْمُو كَمَا قَالَ: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ الْآيَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُ الْمَثَلِ مُقَابِلًا لِمَثَلِ الصَّفْوَانِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ أَيْ فَكَانَ ثَمَرُهَا مِثْلَيْ مَا كَانَتْ تُثْمِرُ فِي الْعَادَةِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلُهُ مَرَّتَيْنِ، وَالْأُكُلُ كُلُّ مَا يُؤْكَلُ وَهُوَ - بِضَمَّتَيْنِ، وَتُسَكَّنُ الْكَافُ تَخْفِيفًا - وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ أَيْ فَالَّذِي يُصِيبُهَا طَلٌّ أَوْ فَطَلٌّ يَكْفِيهَا لِجَوْدَةِ تُرْبَتِهَا وَكَرَمِ مَنْبَتِهَا وَحُسْنِ مَوْقِعِهَا، وَالطَّلُّ: الْمَطَرُ الْخَفِيفُ الْمُسْتَدَقُّ الْقَطْرُ.
أَقُولُ: وَقَدْ عُرِفَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّ الْأَرْضَ الْجَيِّدَةَ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُعْتَدِلَةِ يَكْفِيهَا الْقَلِيلُ مِنَ الرَّيِّ لِرُطُوبَةِ ثَرَاهَا وَجَوْدَةِ هَوَائِهَا ; فَإِنَّ الشَّجَرَ يَتَغَذَّى مِنَ الْهَوَاءِ كَمَا يَتَغَذَّى مِنَ الْأَرْضِ،


الصفحة التالية
Icon