الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَرْضَاهَا مَعَ الْإِخْلَاصِ وَقَصْدِ تَثْبِيتِ النَّفْسِ حَتَّى لَا يَسْتَحِقَّهَا الطَّيْشُ وَالْإِعْجَابُ، فَيَدْفَعُهَا إِلَى الْمَنِّ وَالْأَذَى، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
أَقُولُ: حَثَّتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَبْلَغَ حَثٍّ وَآكِدَهُ، وَأَرْشَدَتْ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُنْفِقُ عِنْدَ الْبَذْلِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَقَصْدِ تَثْبِيتِ النَّفْسِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يَتَّقِيَهُ بَعْدَ الْبَذْلِ وَهُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى، فَكَانَ ذَلِكَ إِرْشَادًا يَتَعَلَّقُ بِالْبَذْلِ وَالْبَاذِلِ، ثُمَّ أَرَادَ - تَعَالَى - أَنَّ يُبَيِّنَ لَنَا مَا يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ فِي الْمَبْذُولِ لِيُكْمِلَ الْإِرْشَادَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَبَيَّنَ نَوْعَ مَا يُبْذَلُ وَمَا يُنْفَقُ وَوَصَفَهُ، أَمَّا الْوَصْفُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالطَّيِّبُ هُوَ الْجَيِّدُ الْمُسْتَطَابُ وَضِدُّهُ الْخَبِيثُ الْمُسْتَكْرَهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي مُقَابِلِ هَذَا الْأَمْرِ: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ أَصْلُ تَيَمَّمُوا: تَتَيَمَّمُوا، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الطَّيِّبِ، هَلْ يُرَادُ بِهِ مَا ذُكِرَ أَمْ هُوَ بِمَعْنَى الْحَلَالِ؟ وَأَنْ يُرَجِّحَ بَعْضُ الْمَعْرُوفِينَ بِالتَّدْقِيقِ مِنْهُمُ الثَّانِيَ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَرَدَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ عَزَا الْأَوَّلَ إِلَى الْجُمْهُورِ. نَعَمْ إِنَّ كُلَّ جَيِّدٍ وَحَسَنٍ يُوصَفُ بِالطَّيِّبِ وَإِنْ كَانَ حُسْنُهُ مَعْنَوِيًّا، فَيُقَالُ: الْبَلَدُ الطَّيِّبُ. الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، لَكِنَّ أُسْلُوبَ الْآيَةِ يَأْبَى أَنْ يُرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ هُنَا أَنْوَاعُ الْحَلَالِ، وَبِالْخَبِيثِ: الْمُحَرَّمُ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ لَا تَرْضَاهُ، وَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يُؤَيِّدُ أُسْلُوبَهَا وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْتُونَ بِصَدَقَتِهِمْ مِنْ حَشَفِ التَّمْرِ وَهُوَ رَدِيئُهُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ " كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ مِنْ رَذَالَةِ مَالِهِمْ " وَفِي أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَعْمِدُ إِلَى التَّمْرِ فَيَصْرِمُهُ فَيَعْزِلُ الْجَيِّدَ نَاحِيَةً، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ أَعْطَاهُ مِنَ الرَّدِيءِ " وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ. وَالْمَعْنَى: أَنْفَقُوا مِنْ جِيَادِ أَمْوَالِكُمْ وَلَا تَيَمَّمُوا - أَيْ تَقْصِدُوا - الْخَبِيثَ فَتَجْعَلُوا صَدَقَتَكُمْ مِنْهُ خَاصَّةً دُونَ الْجَيِّدِ ; فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ تَعَمُّدِ حَصْرِ الصَّدَقَةِ فِي الْخَبِيثِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ التَّصَدُّقِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ وَلَا حَصْرٍ، وَلَوْ أُرِيدَ بِالْخَبِيثِ الْحَرَامُ لَنَهَى عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ لَا عَنْ قَصْدِ التَّخْصِيصِ فَقَطْ، أَمَا وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَةُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ


الصفحة التالية
Icon