مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ لِلنَّفَقَةِ فِيهَا، وَبِالنَّهْيِ عَنْ تَحَرِّي الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ خَاصَّةً دُونَ الطَّيِّبِ لَا عَنْ مُطْلَقِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يُرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَلَالُ، وَبِالْخَبِيثِ الْمُحَرَّمُ، عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي مَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا، وَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ فَلَوْ أُرِيدَ
بِالطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثِ مَا ذُكِرَ لَكَانَ الْخِطَابُ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَكَانَ مَنْطُوقُ الْآيَةِ: أَنْفِقُوا مِنَ الْحَلَالِ وَلَا تَتَحَرَّوْا جَعْلَ صَدَقَاتِكُمْ مِنَ الْحَرَامِ وَحْدَهُ، وَمَفْهُومُهَا جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِالْحَرَامِ أَيْضًا، وَهَذَا مَا يَأْبَاهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ وَالشَّرْعُ الْقَوِيمُ، ثُمَّ إِنَّ مَا اخْتَرْنَاهُ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [٣: ٩٢] وَيُوصَفُ الرِّزْقُ بِالْحَلَالِ وَالطَّيِّبِ مَعًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [٥: ٥] وَقَوْلِهِ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [٧: ١٥٧] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَهَلْ تَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى يُحِلُّ لَهُمُ الْحَلَالَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْحَرَامَ وَهُوَ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَبِيثَ الَّذِي حُرِّمَ أَخَصُّ مِنَ الْخَبِيثِ الَّذِي يُنْهَى عَنْ تَحَرِّي النَّفَقَةِ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ مَا كَانَتْ رَدَاءَتُهُ ضَارَّةً كَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ الْخَبِيثَ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُشْعِرُ بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ ; أَيْ كَيْفَ تَقْصِدُونَ الْخَبِيثَ مِنْهُ تَتَصَدَّقُونَ وَلَسْتُمْ تَرْضَوْنَ بِمِثْلِهِ لِأَنْفُسِكُمْ إِلَّا أَنْ تَتَسَاهَلُوا فِيهِ تَسَاهُلَ مَنْ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ عَنْهُ فَلَمْ يَرَ الْعَيْبَ فِيهِ، وَلَنْ يَرْضَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مَغْبُونٌ مَغْمُوطٌ الْحَقُّ، وَقَدْ صَوَّرُوهُ فِيمَنْ لَهُ حَقٌّ عِنْدَ امْرِئٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ بَدَلًا عَنْهُ مِمَّا هُوَ دُونَهُ جَوْدَةً وَهُوَ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْحُقُوقِ أَيْضًا، فَالرَّدِيءُ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إِلَّا بِإِغْمَاضٍ فِيهِ وَتَسَاهُلٍ مَعَ الْمُهْدِي ; لِأَنَّ إِهْدَاءَ الرَّدِيءِ يُشْعِرُ بِقِلَّةِ احْتِرَامِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَمَا يُبْذَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ هُوَ كَالْمُعْطَى لَهُ فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ أَجْوَدِ مَا عِنْدَهُ وَأَحْسَنِهِ لِيَكُونَ جَدِيرًا بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ الَّذِي يَقْبَلُ الرَّدِيءَ مُغْمَضٌ فِيهِ إِنَّمَا يَقْبَلُهُ لِحَاجَتِهِ إِلَى قَبُولِهِ، وَاللهُ - تَعَالَى - لَا يَحْتَاجُ فَيُغْمِضُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ لِرَدَاءَتِهِ إِلَّا فَقِيرُ الْيَدِ أَوْ فَقِيرُ النَّفْسِ الَّذِي لَا يُبَالِي يَرْضَى بِمَا يُنَافِي الْحَمْدَ كَقَبُولِ الرَّدِيءِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَأَمَّا نَوْعُ مَا يُنْفِقُ فَهُوَ بَعْضُ مَا يَجْنِيهِ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ كَكَسْبِ الْفَعَلَةِ وَالتُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ، وَبَعْضُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ غَلَّاتِ الْحُبُوبِ وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ، وَهُوَ مَا كَانَ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ كَسْبًا ; لِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِيهِ فَضْلُ اللهِ - تَعَالَى - لَا مُجَرَّدَ حَرْثِ
الْإِنْسَانِ وَبَزْرِهِ، عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ عَمَلٌ مَا، أَوْ مَا لَهُمْ فِيهِ إِلَّا عَمَلٌ قَلِيلٌ لَا يَكَادُ يُذْكَرُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَقْدِيمَ الْكَسْبِ عَلَى مَا يُخْرِجُ اللهُ مِنَ الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِ، وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِنْفَاقِ


الصفحة التالية
Icon