هُنَا ; فَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالتَّطَوُّعِ ; وَقِيلَ: يَعُمُّهُمَا وَهُوَ الصَّوَابُ. إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَا يُخْرِجُهُ اللهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَمْ يُخَصُّ بِبَعْضِ ذَلِكَ؟ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّخْصِيصِ ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِمَا يُقْتَاتُ بِهِ دُونَ نَحْوِ الْفَاكِهَةِ وَالْبُقُولِ ; وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْآيَةُ فِي نَفْسِهَا جَلِيَّةٌ وَاضِحَةٌ لَا مَثَارَ لِلْخِلَافِ فِيهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ الْخِلَافُ فِي مَنْ حَمَلَهَا عَلَى زَكَاةِ الْفَرِيضَةِ مَعَ إِضَافَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فِي زَكَاةِ مَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ إِلَيْهَا. وَمَنْ جَرَّدَهَا عَنِ الْآرَاءِ وَالرِّوَايَاتِ فَهِمَ مِنْهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَأْمُرُنَا بِأَنْ نُنْفِقَ مِنْ كُلِّ مَا يُنْعِمُ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الرِّزْقِ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ كَسْبَ أَيْدِينَا أَوْ مَا يُخْرِجُهُ لَنَا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَمَعَادِنِهَا، كُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ يَجِبُ شُكْرُهُ لَهُ بِنَفَقَةِ بَعْضِ الْجَيِّدِ مِنْهُ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ. وَالْآيَةُ لَمْ تُخَصِّصْ وَلَمْ تُعَيِّنْ مِقْدَارَ مَا يُنْفَقُ، بَلْ وَكَلَتْهُ إِلَى رَغْبَةِ الْمُؤْمِنِ فِي شُكْرِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِنْ وَرَدَ دَلِيلٌ آخَرُ يُعَيِّنُ بَعْضَ النَّفَقَاتِ فَلَهُ حُكْمُهُ.
أَقُولُ: لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالتَّعْلِيمِ الْكَامِلِ وَالتَّأْدِيبِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بِهَذَا الْهُدَى أَشَدَّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِحَسَبِ سَعَتِهِ وَحَالِهِ وَأَنْ يَكُونَ فِي بَذْلِهِ مُخْلِصًا مُتَحَرِّيًا مَوَاقِعَ الْفَائِدَةِ، مُبْتَعِدًا بَعْدَ الْبَذْلِ عَمَّا يَذْهَبُ بِثَمَرَتِهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَلَكِنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِيمَانِ يَتَقَلَّبُونَ فِي النِّعَمِ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ لَهَا كُفْرًا ; إِذْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ إِمْسَاكًا وَبُخْلًا، وَقَدْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ مُوَاطِنِ الْعَجَبِ، وَلَكِنَّ الْكِتَابَ الْحَكِيمَ قَدْ جَاءَنَا بِمَا لَهُ مِنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ، وَأَرْشَدَنَا إِلَى طَرِيقِ التَّفَصِّي مِنْهُ وَالْهَرَبِ فَقَالَ:
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَيِّلُ إِلَيْكُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَذْهَبُ بِالْمَالِ وَيُفْضِي إِلَى سُوءِ الْحَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِمْسَاكِهِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ اسْتِعْدَادًا لِمَا يُوَلِّدُهُ الزَّمَنُ مِنَ الْحَاجَاتِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ الْأَمْرَ هُنَا عِبَارَةٌ عَمَّا تُوَلِّدُهُ الْوَسْوَسَةُ مِنَ الْإِغْرَاءِ، وَالْفَحْشَاءُ الْبُخْلُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا فَحُشَ ; أَيِ اشْتَدَّ قُبْحُهُ، وَكَانَ الْبُخْلُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَفْحَشِ الْفُحْشِ، قَالَ طَرَفَةُ:


الصفحة التالية
Icon