أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
وَاللهُ يَعِدُكُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْوَحْيِ وَبِمَا أَوْدَعَهُ فِي النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ مِنَ الْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ، وَالْعَقْلِ الرَّجِيحِ، وَفِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْبِرِّ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا فَإِنَّهُ جَعَلَ الْإِنْفَاقَ كَفَّارَةً لِكَثِيرٍ مِنَ الْخَطَايَا وَسَبَبًا يَفْضُلُ بِهِ الْمَرْءُ قَوْمَهُ وَيَسُودُهُمْ أَوْ يَسُودُ فِيهِمْ بِمَا يَجْذِبُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبِ مَنْ يَكُونُ سَبَبًا فِي رِزْقِهِمْ، وَهَذَا الْفَضْلُ مِنَ الْجَاهِ بِالْحَقِّ - هَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - وَالْمَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْفَضْلَ هُوَ مَا يُخْلِفُهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَى الْمُنْفِقِ مِنَ الرِّزْقِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [٣٤: ٣٩] وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ فِيهِ الْعِبَادُ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا أَيْ تَلَفًا لِمَالِهِ، بِأَنْ يَذْهَبَ حَيْثُ لَا يُفِيدُهُ. وَمَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدِي: أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يُخْلِفَ عَلَى الْمُنْفِقِ بِمَا يُسَهِّلُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَيَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْقُلُوبِ، وَأَنْ يُحْرَمَ الْبَخِيلُ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَعْدُ اللهِ - تَعَالَى - بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِخَيْرِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ، وَالثَّانِي لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ
الْخُلْفُ الَّذِي يُعْطِيهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ هَذَا الْخُلْفِ الرِّزْقَ الْمَعْنَوِيَّ وَهُوَ الْجَاهُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِ الْقُلُوبِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فَهُوَ إِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ لِسَعَةِ فَضْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعْلَمُ أَيْنَ يَضَعُ مَغْفِرَتَهُ وَفَضْلَهُ، بِمِثْلِ هَذَا يُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَأَقُولُ: إِنَّ اسْمَ عَلِيمٌ يُفِيدُ هُنَا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ غَيْبَ الْعَبْدِ وَمُسْتَقْبَلَهُ وَالشَّيْطَانُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَوَعْدُهُ تَغْرِيرٌ لَا يَعْبَأُ بِهِ الْعَاقِلُ النِّحْرِيرُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: اسْتِعْمَالُ الْوَعْدِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ شَائِعٌ لُغَةً، ثُمَّ جَرَى عُرْفُ النَّاسِ أَنْ يَخُصُّوا الْوَعْدَ بِالْخَيْرِ وَالْإِيعَادَ بِالشَّرِّ، فَإِذَا ذَكَرُوا الْوَعْدَ مَعَ الشَّرِّ أَرَادُوا بِهِ التَّهَكُّمَ، عَلَى أَنَّ مَا يَعِدُ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنَ الْفَقْرِ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْفَاقِ، وَيَلْزَمُهُ الْوَعْدُ بِالْغِنَى مَعَ الْبُخْلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ فَيُبَيِّنُ لَنَا بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَعِدُ هُوَ - جَلَّ شَأْنُهُ - بِهِ وَمَا يَعِدُ بِهِ الشَّيْطَانُ مَا نَحْنُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مَعَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ وَالْوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِيِّ، وَتِلْكَ هِيَ الْحِكْمَةُ.
فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْحِكْمَةَ هُنَا بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ يَكُونُ صِفَةً مُحْكَمَةً فِي النَّفْسِ حَاكِمَةً


الصفحة التالية
Icon