عَلَى الْإِرَادَةِ تُوَجِّهُهَا إِلَى الْعَمَلِ، وَمَتَى كَانَ الْعَمَلُ صَادِرًا عَنِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ كَانَ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ النَّافِعُ الْمُؤَدِّي إِلَى السَّعَادَةِ. وَكَمْ مِنْ مُحَصِّلٍ لِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ خَازِنٍ لَهَا فِي دِمَاغِهِ لِيَعْرِضَهَا فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ لَا تُفِيدُهُ هَذِهِ الصُّوَرُ الَّتِي تُسَمَّى عِلْمًا فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَالْأَوْهَامِ، وَلَا فِي التَّزْيِيلِ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَتَمَكَّنْ فِي النَّفْسِ تَمَكُّنًا يَجْعَلُ لَهَا سُلْطَانًا عَلَى الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَصَوُّرَاتٌ وَخَيَالَاتٌ تَغِيبُ عِنْدَ الْعَمَلِ، وَتَحْضُرُ عِنْدَ الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَالْمُرَادُ بِإِيتَائِهِ الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ - إِعْطَاؤُهُ آلَتُهَا الْعَقْلُ كَامِلَةً مَعَ تَوْفِيقِهِ لِحُسْنِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْآلَةِ فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ ; فَالْعَقْلُ هُوَ الْمِيزَانُ الْقِسْطُ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ الْخَوَاطِرُ وَالْمُدْرَكَاتُ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ أَنْوَاعِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ، فَمَتَى رَجَحَتْ فِيهِ كِفَّةُ الْحَقَائِقِ طَاشَتْ كِفَّةُ الْأَوْهَامِ، وَسَهُلَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ.
أَقُولُ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ " أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْفِقْهُ فِي الْقُرْآنِ " أَيْ مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى، وَالْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا وَحِكَمِهَا; لِأَنَّ هَذَا الْفِقْهَ هُوَ أَجَلُّ الْحَقَائِقِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي النَّفْسِ الْمَاحِيَةِ لِمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْوَسَاوِسِ حَتَّى لَا تَكُونَ مَانِعَةً مِنَ الْعَمَلِ
الصَّالِحِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ فَقِهَ مَا وَرَدَ فِي الْإِنْفَاقِ وَفَوَائِدِهِ وَآدَابِهِ مِنَ الْآيَاتِ لَا يَكُونُ وَعْدُ الشَّيْطَانِ لَهُ بِالْفَقْرِ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالْبُخْلِ مَانِعًا لَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْفِقْهَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْفَهْمِ وَالْبَحْثِ عَنْ فَوَائِدِ الْأَحْكَامِ وَعِلَلِهَا وَدَلَائِلِ الْمَسَائِلِ وَبَرَاهِينِهَا، فَالْخَبَرُ: فَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِالْأَخَصِّ، رِعَايَةً لِلْمَقَامِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَسَّرَهَا بِالْأَعَمِّ بَيَانًا لِشُمُولِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، فَالْآيَةُ بِإِطْلَاقِهَا رَافِعَةٌ لِشَأْنِ الْحِكْمَةِ بِأَوْسَعِ مَعَانِيهَا هَادِيَةً إِلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي أَشْرَفِ مَا خُلِقَ لَهُ. وَمَنْ رُزِئَ بِالتَّقْلِيدِ كَانَ مَحْرُومًا مِنْ ثَمْرَةِ الْعَقْلِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ، مَحْرُومًا مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهُ لِصَاحِبِ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا فَيَكُونُ كَالْكُرَةِ تَتَقَاذَفُهُ وَسْوَسَةُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَجَهَالَةُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي بِعُقُولِ النَّاسِ عَنْ عَقْلِهِ، وَبِفِقْهِ النَّاسِ عَنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ، بِدَعْوَى أَنَّهُ جَمَعَ كَلَّ مَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي الْبَيَانِ، وَقَدْ يَجِدُ فِي فِقْهِ النَّاسِ أَنَّ اللهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ غَيْرَ الزَّكَاةِ الَّتِي لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ، وَأَنَّهُ إِذَا هُوَ وَهَبَ امْرَأَتَهُ مَالَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَوْهَبَهَا إِيَّاهُ بَعْدَ دُخُولِ الْحَوْلِ الْجَدِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَيُمْكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْلِكَ أُلُوفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَتَمُرَّ عَلَيْهِ السُّنُونَ وَالْأَحْوَالُ لَا يُنْفِقُ مِنْهَا شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللهِ وَيَكُونُ مُؤْمِنًا عَامِلًا بِفِقْهِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى الْقُرْآنِ وَفَقِهَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ وَلَا غُرُورٍ بِعَظَمَةِ شُهْرَةِ الْمُحْتَالِينَ الْمُحَرِّفِينَ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ بِهَذَا الْمَنْعِ عَدُوًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلِكِتَابِهِ، مَحْرُومًا مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَتَاهُ اللهُ - تَعَالَى - لِأَهْلِهِ.


الصفحة التالية
Icon