وَهُمْ يَرَوْنَ أُمَّتَهُمْ قَدْ صَارَتْ بِبُخْلِهِمْ أَبْعَدَ
الْأُمَمِ عَنِ الْخَيْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَصَالِحِ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا لَانْتَشَلُوا هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ وَهْدَتِهَا، وَعَادُوا بِهَا إِلَى عِزَّتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ ظَالِمُونَ، قُسَاةٌ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَتَذَكَّرُونَ.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ الصَّدَقَاتِ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ الْمُخْلِصُونَ الَّذِينَ يَتَحَامَوْنَ الرِّيَاءَ وَالْفَخْرَ فِي الْإِنْفَاقِ، وَمَا كُلُّ مُظْهِرٍ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ مُرَائِيًا بِهِ وَلَكِنْ كُلُّ مُخْفٍ لَهُ بَعِيدٌ عَنِ الرِّيَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أَيْ فَنِعْمَ شَيْئًا إِبْدَاؤُهَا، وَأَصْلُهَا نِعْمَ مَا هِيَ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَوَرْشٌ وَحَفْصٌ نِعِمَّا بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ (اخْتِلَاسِهَا) فِي رِوَايَةٍ وَإِسْكَانِهَا فِي أُخْرَى، وَالْأُولَى أَقِيسُ، وَحُكِيَتِ الثَّانِيَةُ لُغَةً. قَالَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِنَّ إِعْطَاءَهَا لِلْفُقَرَاءِ فِي الْخُفْيَةِ وَالسِّرِّ أَفْضَلُ مِنَ الْإِبْدَاءِ لِمَا فِي الْإِخْفَاءِ مِنَ الْبُعْدِ عَنْ شُبْهَةِ الرِّيَاءِ وَمَثَارِهِ، وَمِنْ إِكْرَامِ الْفَقِيرِ وَتَحَامِي إِظْهَارِ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ، وَقِيلَ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْخُيُورِ وَلَيْسَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ زِيَادَةُ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ: وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ أَيْ وَيَمْحُو عَنْكُمْ بَعْضَ سَيِّئَاتِكُمْ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَيُكَفِّرْ بِالْيَاءِ: أَيِ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ وَيَعْقُوبَ (وَنُكَفِّرُ) بِالنُّونِ مَرْفُوعًا: أَيْ وَنَحْنُ نُكَفِّرُ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وَنُكَفِّرْ) بِالنُّونِ مَجْزُومًا بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الْفَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ نِيَّاتُكُمْ فِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ - فَإِنَّ الْخَبِيرَ هُوَ الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ.
بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبْحَثَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ عَامَّةٌ تَشْمَلُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَالتَّطَوُّعَ، فَإِخْفَاءُ كُلِّ فَرِيضَةٍ خَيْرٌ مِنْ إِبْدَائِهَا. وَقَالَ
الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالتَّطَوُّعِ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَهِيَ شَعَائِرُ لَا يَنْبَغِي إِخْفَاؤُهَا، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. قَالَ: إِنَّ إِبْدَاءَ الْفَرِيضَةِ إِشْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ لَوْ أُخْفِيَتْ لَتُوُهِّمَ مَنْعُهَا،


الصفحة التالية
Icon