وَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي الْمُتَوَهِّمِ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ لِمَا لِلْقُدْرَةِ وَحَالِ الْبِيئَةِ مِنَ التَّأْثِيرِ، وَلَا مَحَلَّ لِلرِّيَاءِ فِي الْفَرَائِضِ وَالشَّعَائِرِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً وَلِأَنَّ الْمُرَائِيَ بِهَا لَا يَكُونُ مُصَدِّقًا بِفَرْضِيَّتِهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ. أَقُولُ: فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْحَالُ فَصَارَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرِيضَةِ نَادِرًا لَا يَكَادُ يُعْرَفُ فَإِذَا عُرِفَ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْبَنَانِ فَهَلْ يَصِيرُ الْأَفْضَلَ لَهُ إِخْفَاؤُهَا؟ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِظْهَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ آكَدًا ; لِأَنَّ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ وَقُوَّتَهُ بِإِظْهَارِ شَعَائِرِهِ وَفَرَائِضِهِ وَلِمَكَانِ الْقُدْوَةِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْإِظْهَارَ أَفْضَلُ لِمَنْ يَرْجُو اقْتِدَاءَ النَّاسِ بِهِ فِي صَدَقَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا ; لِأَنَّ نَفْعَهَا حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْعِ الْقَاصِرِ بِلَا نِزَاعٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ فِي الْآيَةِ خَاصَّةً بِصَدَقَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْفَائِدَةِ: إِحْدَاهُمَا خَفِيَّةٌ وَالْأُخْرَى جَلِيَّةٌ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَفِيَّةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ أَفْضَلَ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الْخَيْرِيَّةَ فِيهَا عَامَّةٌ إِلَّا أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِقَيْدِ الْحَيْثِيَّةِ - كَمَا يَقُولُونَ - أَيْ إِنَّ كُلَّ صَدَقَةٍ خَفِيَّةٍ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ جَلِيَّةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ سَتْرٌ لِحَالِ الْفَقِيرِ وَتَكْرِيمٌ لَهُ وَمَجْنَبَةٌ لِنَزَعَاتِ الرِّيَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْجَلِيَّةِ فَائِدَةٌ لَيْسَتْ فِي الْخَفِيَّةِ كَالِاقْتِدَاءِ تَكُونُ خَيْرًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَوِ الْحَيْثِيَّةِ، وَلَكَ أَنْ تُوَازِنَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيِ الْجِهَةِ أَيَّتُهُمَا أَرْجَحُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُعْطِي وَالْمُعْطَى وَالْقُدْوَةِ. فَرُبَّ مُعْطٍ لَا يَقْتَدِي بِهِ أَحَدٌ وَمُعْطٍ يَقْتَدِي بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، وَمُعْطٍ يَتْبَعُهُ الْجَمَاهِيرُ، وَرُبَّ مُعْطَى يَرَى مِنَ الْعَارِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَيُفَضِّلَ أَنْ يُعْطِيَهُ زَيْدٌ وَحْدَهُ فِي السِّرِّ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ فِي السِّرِّ، وَإِنَّ مِنَ الْمُنْفِقِينَ مَنْ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ إِذَا هُوَ تَصَدَّقَ فِي الْمَلَأِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا الرِّيَاءَ وَلَوْ أَنْفَقَ فِي الْخَلْوَةِ إِلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ضَبْطِ نَفْسِهِ لِتُوَاظِبَ عَلَى الْكِتْمَانِ، عَلَى أَنَّ الْمُخْلِصَ لَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ الَّذِي يَسْلَمُ بِهِ مِنْ مُنَازَعَةِ الرِّيَاءِ وَبَيْنَ إِبْدَائِهَا الَّذِي يَكُونُ مَدْعَاةً لِلْأُسْوَةِ وَالِاقْتِدَاءِ، وَيَسْهُلُ هَذَا الْجَمْعُ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَأَنْ يُرْسِلَ
الْمُتَصَدِّقُ وَرَقَةً مَالِيَّةً لِجَمْعِيَّةٍ خَيْرِيَّةٍ، وَلَا يَذْكُرُ لَهَا اسْمَهُ أَوْ يَذْكُرُهُ لِمَنْ يَبْذُلُ لَهُ الْمَالَ كَرَئِيسِهَا أَوْ أَمِينِهَا فَقَطْ، وَمِنْ دَأْبِ الْجَمْعِيَّاتِ أَنْ تُشِيدَ بِمِثْلِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ بِأَلْسِنَةِ أَعْضَائِهَا وَبِأَلْسِنَةِ الْجَرَائِدِ الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ طَرْقِ الشُّهْرَةِ فِي عَصْرِنَا وَأَبْعَدُهَا مَدًى.
وَلَا يَبْعُدُ عَنْ هَدْيِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَإِنْشَاءِ الْمَدَارِسِ لِلتَّرْبِيَةِ الْمِلِّيَّةِ وَالتَّعْلِيمِ النَّافِعِ، وَإِنْشَاءِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْبِهُ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ، فَلَا يَنْبَغِي إِخْفَاؤُهُ وَإِنْ أَخْفَى الْمُنْفِقُ اسْمَهُ، وَإِنَّ تَفْضِيلَ الْإِخْفَاءِ خَاصٌّ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ إِلَخْ. وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتَجْعَلُوهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْفَقِيرِ سَدٌّ لِخَلَّتِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْمُبَارَاةِ فِي الِاسْتِكْثَارِ كَمَا يُحْتَاجُ فِي إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهَا مِنْ سَتْرِ حَالِهِ وَحِفْظِ كَرَامَتِهِ مَا لَا يَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْمَصَالِحِ.


الصفحة التالية
Icon